لم يكن عصر السرعة يوما مرادفا للمعرفة، لكنه صار اليوم يفرض إيقاعه حتى على الفكر والثقافة. فالمقالات التي كانت تُكتب لتُقرأ بتمعّن، وتبقى في الذاكرة كحوار مفتوح بين الكاتب والقارئ، تتراجع بشكل مخيف أمام شذرات لا تتجاوز بضع كلمات أو مقاطع لا تتعدى ثوان.
هذا الأمر يحول المعرفة من نقش عميق في الصخر إلى مجرد ومضات عابرة. يتجاوز الأمر وسائل النشر والمعرفة في العالم إلى تحوّل مخيف يمس جوهر العلاقة بين الإنسان والعالم؛ فحين تُختزل الفكرة الكبرى في «تغريدة» أو اقتباس مقطوع من سياقه، يُسلب القارئ القدرة على التكيف والصبر المعرفي، وتُمحى الحدود بين المعلومة والرأي، بين الحكمة والتسلية.
هذا الأمر يصنع وعيا هشا وقابلا للانفعال اللحظي أكثر من قدرته على التراكم والتفكير النقدي. لا تبنى الثقافة الحقيقية على ذلك اللمعان السريع، ولكن على التجربة الطويلة التي يتخللها الجدل، والتأمل، والعودة إلى النصوص في ضوء أسئلة جديدة.
وكل محاولة لاختصار هذه الرحلة إلى ومضة أو تغريدة أو فيديو سريع لا تصنع وعيا، ولكن تزرع وهما بالمعرفة، أشبه بمرآة مقعّرة تكبّر التفاصيل وتُخفي الصورة الكاملة. إن فكرة الدفاع عن المقالة الطويلة أو عن المطولات بشكل عام ليس حنينا إلى زمن مضى، ولكنه موقف معرفي وأخلاقي في مواجهة ثقافة التبسيط المفرط. وفي هذا الموقف انتصار أيضا لـ«بطء القراءة» باعتباره فعل مقاومة ضد تسليع العقل، وضد تحوّل الإنسان إلى مجرّد مستهلك لشذرات لا تمنحه إلا الفتات.
إن ملحق جريدة «عمان» الثقافي وهو يختار لغته ومساحاته، يضع نفسه في هذا السياق المقاوم للتسطيح عبر تقديم النصوص التي تُعيد للقارئ حقه في التوقف، والتأمل، والتفكير. وفي هذا إيمان أن المعرفة إن لم تُصغْ على مهل، فلن تُثمر سوى وعي قصير النفس، يذوب بالسرعة ذاتها التي وُلد بها.