يسود اعتقاد في العالم العربي، وربما في العالم أجمع، أن هذا الزمن هو زمن الرواية لا زمن الشعر. يتعلق الأمر بجدلية نوقشت في العالم العربي كثيرا خلال السنوات الماضية. وليس الوقت وقت بحثها الآن. لكن رغم هذا الاعتقاد الأقرب إلى اليقين نتيجة الإقبال الكبير على قراءة الرواية فإن الثقافة العربية المتخمة بأسماء مئات الروائيين لا تنتج دائما روائيا بحجم الروائي صنع الله إبراهيم الذي غادر دنيانا مطلع الشهر الجاري تاركا فراغا لا يملؤه إلا إرثه من الروايات التي تجاوزت القوالب الجاهزة، وعملت على فضح القمع، ومساءلة الواقع بلغة قاسية، لكنها، رغم ذلك، كانت حقيقية إلى حد الصدمة.
كان رحيل صاحب رواية «وردة» مناسبة في الأوساط الثقافية العربية لاستعادة صورة كاتب عاش حياته في مواجهة السلطة والبلاغة المزيفة، مسكونا بهاجس أن الأدب يجب أن يملك «رؤية كلية» للتاريخ، للماضي وللحاضر وللمستقبل معا. وُلد صنع الله عام 1937، ونشأ في القاهرة في مرحلة كانت تصارع فيه الاحتلال البريطاني. وتخصص في دراسة القانون في جامعة القاهرة.
وسرعان ما وجد نفسه منخرطا في الحركة الشيوعية التي كانت تستقطب الكثيرين من أبناء جيله بحثا عن واقع أفضل وعن إجابات على أسئلة كثيرة لم تكن المسارات الأخرى في تلك المرحلة قادرة على الإجابة عليها خاصة بين أوساط الشباب من طلبة الجامعات. لكن صنع الله إبراهيم وجد نفسه معتقلا في عام 1959 مع آلاف الشيوعيين المصريين.
قضى خمس سنوات في معسكر الواحات، وهناك، كما يقول في مذكرات السجن، وُلد الأسلوب الذي سنقرأ به عشرات الروايات التي تعتمد على التفاصيل واللغة المباشرة أحيانا إلى حد التقريرية وكأنك تقرأ محاضر رسمية، لكنها محاضر تكشف لك زيف الواقع وعوراته. لم تكن مرحلة السجن سهلة لا على صنع الله إبراهيم ولا على بقية الشيوعيين، وهي مرحلة وجدت طريقها إلى الأدب أكثر من غيرها. صنع الله نفسه صاغ تجربته في روايته الأولى «تلك الرائحة» التي صدرت فور خروجه من السجن. ورغم أنها رواية قصيرة جدا إلا أنها أقرب إلى أن تكون نبوءة لما حدث بعد صدورها بعام واحد فقط.. ظهر الرواية مصر وهي تعيش في حالة من الجمود السياسي والاجتماعي، حيث يغرق الناس في الاستهلاك واللامبالاة بينما القاهرة تختنق بمجاريرها. بطل الرواية، الخارج لتوه من السجن، يجد نفسه محاصرا بملل الحياة اليومية، وعاجزا عن أي فعل أو أمل. بعد عام واحد من صدورها، جاءت هزيمة 1967.
لم يكن صنع الله إبراهيم يقصد توثيق الهزيمة قبل حدوثها ولكن هناك من رأى أن الأسباب التي تقود «للهزيمة» كانت قائمة بالفعل مثل القمع والبيروقراطية، ما اعتبر أنه نبوءة مُبكرة بانكسار المشروع الناصري! لكن الرواية في طرحها لم تخرج كثيرا على الزاوية التي كان يرى من خلالها الشيوعيون مشروع عبدالناصر؛ ولذلك فإنها تمثل تلك الزاوية خير تمثيل رغم أن هناك من قرأ النكسة بمناظير مختلفة وأكثر واقعية. في مذكرات السجن التي حملت عنوان «مذكرات الواحات» كتب صنع الله إبراهيم يقول: «يجب أن أكتب عن القاهرة حيا حيا، عن طبقاتها، عن آلام مخاضها» احتاج الأمر إلى أن يقرأ كلاسيكيات الرواية العالمية حيث قرأ وولف، وجويس، ونوفو رومان الفرنسي، وبريخت، ولوكاش، لكن الأثر الأعمق الذي انعكس على أعماله كان للروائي همنجواي، ومنه استطاع أخذ أسلوب «الاقتصاد في التعبير»، والقدرة على قول الحقيقة بلا محسنات.. الأمر الذي جعل رواياته وثائق ويوميات للواقع بعيدا عن أي زخرفة لغوية أو محسنات لا محل لها من الإعراب. لم يتوقف صنع الله إبراهيم في صدامه مع السلطة مع رواية «تلك الرائحة» فنجده في روايته «اللجنة» الصادرة عام 1981 يكتب هجاء سرياليا ضد الرقابة والسلطة، فيما قدمت روايته «ذات» الصادرة 1992 ما يمكن أن يكون لوحة بانورامية ساخرة لمصر الاستهلاكية عبر قصاصات الصحف وحياة امرأة من الطبقة الوسطى. وربما تكون «ذات» هي التي جسدت أسلوب صنع الله إبراهيم الذي يلتقط الخاص والعام واليومي والتاريخي والفردي والجمعي ويضعهما في رؤية واحدة متكاملة تصنع لوحته الروائية.
لكن أعمال صنع الله إبراهيم لم تقف عند مصر وحدها فتناول الحرب الأهلية اللبنانية في روايته «بيروت بيروت»، وحرب ظفار في روايته «وردة» في إشارة ربما إلى أن مصير مصر لا يمكن أن ينفصل عن تحولات العالم العربي. كان صنع الله إبراهيم مثقفا صاحب موقف؛ فحين حضر في أكتوبر 2003، لتسلم «جائزة الرواية العربية» التي تمنحها وزارة الثقافة المصرية في عهد مبارك كان الجميع يتوقع أن يصمت أو أن يقبل لكنه فاجأ الجميع بخطاب صاعق في ذلك الوقت ورفض الجائزة «لأنها منحت من حكومة أرى أنها تفتقر إلى المصداقية التي تخوّلها منحها» كما قال على الهواء مباشرة وأمام الجمهور الكبير.. كان ذلك لحظة نادرة في تاريخ الثقافة المصرية، جعلت صنع الله إبراهيم أيقونة لجيل شاب يبحث عن استقلال المثقف عن السلطة وفق أطروحات تلك المرحلة من التحولات العربية. تفقد الثقافة العربية برحيله كاتبا جعل من الرواية ضميرا عاما، تتفق أم تختلف معه ولكنه كان يقول ما يراه صوبا، لم يغازل السلطة بحثا عن مكانة، ولم يجمل القبح ولم يسع وراء الأضواء.. كان مثقفا حقيقيا ونادرا، ترك وراءه نصوصا تفضح وتؤرخ، وأيضا، تجرح الكثيرين، لكنها في النهاية تمنح الأدب العربي مكانته كمرآة للتاريخ بعيدا عن الأقنعة، وكانت رؤيته تعطي الوقائع لونها الحقيقي، ولذلك فإن لم يتعامل مع فكرة تلوين الخيال أو إعطائه اللون الذي كان يتمنى أن يتلون به.