حسن عبد الموجود

قبل أسبوع واحد من رفض الكاتب المصري صنع الله إبراهيم لجائزة ملتقى القاهرة للرواية، كنت في بيته أجري معه حواراً حول روايته الجديدة آنذاك "أمريكانلي".
وأظن أن فكرة رفض الجائزة كانت مجرد بذرة تنمو داخله وقتها، إذ كان يتبقى يومان أو ثلاثة على انعقاد الملتقى، ولجنة تحكيم جائزته لم تشكَّل بعد، أو تشكَّلت ولم تتفق بشكل نهائي على اسم الفائز.
كذلك إذا كان هو اسماً بارزاً فهناك أيضاً العديد من الأسماء البارزة غيره في جيل الستينيات، مثل جمال الغيطاني، ومحمد البساطي، وإبراهيم أصلان، وبهاء طاهر، وخيري شلبي، وكلهم منافسون محتملون، وبالتالي ربما كان يعيش مجرد أحلام يقظة يرى فيها الدكتور جابر عصفور أمين المجلس الأعلى للثقافة، الجهة المنظمة للملتقى، يعلن فوزه، ثم يصعد هو على خشبة المسرح الصغير بدار الأوبرا، وينظر إلى وزير الثقافة فاروق حسني بتشفٍّ كبير، ويعلن عدم قبوله للجائزة.
كانت المرة الأولى التي أراه فيها وجهاً لوجه، بعد عدد كبير من المكالمات الهاتفية بيننا، خاصة أيام الجمعة من كل أسبوع، موعد صدور جريدة "أخبار الأدب".
كان يتصل بي إذا قرأ لي موضوعاً أعجبه، ويناقشني حوله. وقد وجدته كما تخيَّلته بالضبط، ضئيل كعصفور، وشعره مهوَّش، كأنه جرن قمح، أو قنفذ.
كان هناك جانب رقيق في شخصيته، ظهر لي حين بدأ يحدثني عن حفيد له، (لم يكن لدى صنع الله أي أولاد، ولكنه كان يتعامل مع أبناء زوجته كأبنائه، ومع أولادهم كأحفاده) ويصف باندهاش كبير تصرَّفاته، وكيف يتحرك ذلك الحفيد الطفل كالإعصار في البيت، ويتَّخذ في ثانية واحدة عدة قرارات، كأن يحاول تمزيق غلاف كتاب، أو سحب مفرش طاولة، وكيف يضع كل شيء في فمه، مثل أعقاب السجائر، وأعواد الثقاب، والعملات المعدنية والورقية، وحتى النمل الفارسي.
بدا لي شخصاً مرحاً، وودوداً، وقد تركني أقلِّب في مكتبته، التي تحتل أكثر من ركنٍ في صالون شقته الواسع، الكتب ليست منظمة، وبعضها تناثر على الأرض هنا وهناك، ولمحت كذلك فايلات ورق مكتنزة، فتحت بعضها، ووجدت داخلها قصاصات جرائد، فيها أخبار سياسة وجريمة ومجتمع، وكذلك فيها قصص منشورة في بريد الأهرام. أدركت أنني الآن في قلب مطبخ روايات صنع الله إبراهيم، فهو أول مصري وربما عربي يمزج السرد بقصاصات الأرشيف، وبدا لي أنه لم يتخلص من ورقة واحدة جمعها في حياته، فالمكان يكاد أن يتحول إلى مخزن للكتب والأوراق.
تركني أطالع بعض الكتب والقصاصات، وكنت أسأله بعض الأسئلة عنها فيجيب ببساطة ومحبة، وأمام لطفه البالغ سألت نفسي: لماذا إذن يصوره الجميع كأنه طائر جارح؟! لكني أدركت بعدما ضغطتُ زر التسجيل لنبدأ الحوار أن الجميع معهم حق، فقد استدعيت ذلك الطائر الجارح. كانت لديه رغبة جارفة على ما يبدو في كيل السباب لأمريكا، ولم أمانع في ذلك، لكن المشكلة أنه كان ينتهز أي فرصة لسب نظام مبارك، وحاولت جاهداً أن أعيده إلى أسئلتي الأدبية، وأنا أفكر: حين أنزل من شقته إلى الشارع، سيكون في حقيبتي "حرز"، كفيل بأن يلقيني في الحبس، بتهمة الإساءة إلى النظام. ويبدو أنه لاحظ قلقي ومحاولاتي المستميتة لإعادته إلى سياق الحوار، لكنه مع ذلك استمر في انتقاداته العنيفة، فاستسلمت.
كان لديَّ فضول لمعرفة لماذا يكتب غالباً رواياته بضمير الأنا، وهل تسبب ذلك في سوء فهم له، فالناس يميلون غالباً إلى قراءة الروايات المكتوبة بذلك الضمير كسيرةٍ ذاتية، فقال: "أحب ذلك الضمير، فهو يجعلني أتحرك بخفة وحرية، من جملة إلى جملة، ومن فقرة إلى فقرة، كما أتخيل أنه الأسهل في القراءة، لكنه طبعاً تسبب لي في مواقف فظيعة للغاية!".
ثم حكى لي أنه منذ أيام فقط، تُوفيت قريبة له، ونشر كبار العائلة في إحدى الجرائد نعياً لها، ووضعوا فيه بعض الأسماء البارزة، لكن الأحفاد لم يعجبهم أن يروا اسم صنع الله في النعي، واستغلوا وجود عمَّال يعرفونهم في المطبعة، لكشط اسمه من "الزينكات" في اللحظة الأخيرة قبل الطبع. ضحك وقال بدهشة شديدة: "تخيَّل، لقد رأيت النعي في الجريدة، ووجدتُ بياضاً كبيراً، ففهمت أنه المكان الذي حُذف منه اسمي. اعتذر له أحد أقاربه عن الواقعة، وأخبره أنهم قرأوا "تلك الرائحة" التي كتبها حول تجربته القاسية في السجن، وفيها شفرات يمكن فكها بسهولة شديدة عن الفساد والمفسدين من وجهة نظره، واعتبروا أن أحداثها تسيء إلى مركز العائلة في المجتمع.
لم تكن هذه هي الحالة الوحيدة التي قابلت صنع الله. عبثاً حاول أن يشرح للناس في كل مكان، أن وجود قليلٍ من حياته فيما يكتبه لا يعني أن أعماله هي سيرة ذاتية خالصة. الرواية كذبة كبيرة، وإذا وضع فيها الكاتب بعض المحطات من سيرته، فإنه يخضعها للشكل الفني، وللكذب، لكنه كان يفاجأ كل مرة بقارئ لإحدى رواياته يسأله: هل تعرَّضت للاغتصاب فعلاً يا أستاذ صنع الله؟! لماذا تحب كتابة "البورنو"؟!
كان يضحك ويقول: "الناس بينهم وبين أنفسهم يعرفون أن الجنس هو أنبل نشاط إنساني، فمن خلاله يحصلون على المتعة والسعادة ويضمنون استمرار الحياة بإنجاب الأبناء، لكنهم في نفس الوقت إذا قرأوه عند كاتب فإنه يصبح مقرفاً وسيئاً وخطيئة. عن نفسي حين أقرأ مشهداً حسياً في رواية أسال نفسي هل هو على درجة عالية من البذاءة؟! أم من الجمال والإدراك الحسي؟! الجنس ليس جريمة"!
عاش صنع الله فترة في أمريكا، واعتبر نفسه في مهمة بحثية محددة هناك. أراد أن يعرف كل شيء عن المجتمع الأمريكي، كيف يفكر الناس؟! كيف يأكلون ويشربون؟! ما نوعيات ملابسهم؟! ما علاقتهم بالسياسة، وكان يشتري كل ما تقع عليه عيناه من جرائد ومجلات، ويقضي وقتاً طويلاً في قراءتها، وجمع قصاصات منها، حتى يستطيع كتابة روايته "أمريكانلي" في النهاية.
كانت هذه هي طريقته الأثيرة، بشكل عام، في الكتابة، أن يقضي وقتاً في البحث، في زمن كان فيه الأرشيف صعباً وناقصاً، فإذا كنت تبحث عن شخصية تاريخية مثلاً، فأنت غالباً تفاجأ بالنقص الحاد حول حياتها، أو منجزها، وكذلك تفاجأ بأن كل ما كُتِب عنها، على قلَّته، يخضع لأهواء كاتبه، وبالتالي كانت مهمة صنع الله شاقة جداً، لكنه صنع لنفسه، قبل ظهور جوجل بسنوات طويلة، محرك بحث يدوي، وصل إلى ما وصل إليه بالصبر والدأب والإخلاص.
كان يكره أمريكا، لدرجة أنه دخل في جدال مع كهربائي جلبه إلى الشقة منذ أيام. يحكي: "سألته عن محوِّل، فقال إنه أمريكاني، يعني ممتاز، وعشرة على عشرة، فصدمته. قلت له: زمان كنا نطلق كلمة أمريكاني على الأشياء الرخيصة والفالصو!". من وجهة نظر صنع الله فإن أمريكا خلقت صورة لها عند العرب عبر المسلسلات، عن الدولة النظيفة، ذات الشوارع الواسعة، والأشجار المعمِّرة، والشقق الفخمة، والديكورات الرائعة الملوَّنة، وبالتالي لم يعد في وسع أحد أن يتخيل وجود مشردين في تلك الجنة، لكن الرحلة إلى أمريكا كشفت له أن أرض الأحلام زائفة، وكما فيها قمة فيها قاع أيضاً.
أمضيت نصف يوم تقريباً في شقة صنع الله، خرجت منه بانطباع رائع، وإن أردت أن ألخصه، فهو صاحب وجوه متعددة، الحالم البسيط، النسر العنيد، رب الأسرة الوديع، الثائر المناضل، الأرشيفجي، الغامض، الانعزالي، وصانع المفاجآت المزلزلة. كنت على موعد بعد يومين أو ثلاثة مع مفاجأته المدوية، ورأيته وهو يحقق حلم يقظته، فقد صعد إلى المسرح وألقى بقنبلته. كنت محظوظاً إذ رأيته خلال أسبوع واحد في حالتين مختلفتين. الأولى وهو مستكنٌ في عشه، والثانية يحلق في السماء، وينقض على فريسته المذعورة، فما أجمله.