بدرية العامري
ما أن انتهيت من رواية "فوضى الأحاسيس" لستيفان زفايغ حتى بحثتُ عن العام الذي كُتبت فيه، إذ أثار فيّ هذا العمل معتركًا من المشاعر، ودفعني للتساؤلِ هل أراد زفايغ في هذا العمل تطبيع هذه المُمارسات أم تفهّمها فقط، فما أن تنهمك بقراءة الرواية حتى تعيش تفاصيلها وتتفاعل معها، إذ كما اعتاد زفايغ في أعماله؛ يُلامس العميق بسبرهِ أغوار النفس البشريّة، ووصف الانفعالات والتفاعلات الدّاخلية التي يُحدثها الخارج.
"فوضى الأحاسيس" عملٌ أدبي لستيفان زفايغ من ترجمةِ ميساء العرفاوي، يمتازُ بلغةٍ آسرةٍ عميقة، لا تُغرق في الشّاعريةِ ولا تنزلقُ إلى البساطةِ الفجّة، لغةٌ عميقة وتصاوير بديعة، وبانسجام تام مع العنوان، تأخذك الأحداث بشكل مُدهش ومستفز أحيانا لعمق الترقب والقلق، تجعلك متحفِّزا تلهث لمعايشة اللحظة التالية.
زفايغ كعادته بارع في محاكاة الانفعالات النفسيّة، يتحدُث في روايته عن علاقة معقّدة بين التلميذ وأستاذه؛ عن الانجذاب الذي تمكّن من روحِ التلميذ لأستاذه، عن الحضور الأخّاذ لأستاذ الأدب، وعن الارتباط غير المفهومِ بينهما، وعن الشدِّ والجذبِ الذي طال هذه العلاقة.
لا يعبأ زفايغ في "فوضى الأحاسيس" بالزّمان، ولا بالمكان، بل يُركّز على الحالة النفسيّة للشخصيّات أكثر من أي شيء آخر، فها هو يتحدّث في صفحات عديدة عن الحالة التي تتلبّس التلميذ نِتاج ردّات فعل أستاذه المنسحِبة أحيانًا والمنفعلةِ أحيانًا أُخرى، وما ينتج عنها من تأويلات في نفس رولان التلميذ، وإحباط وإحساس بالنفور والخُذلان والكراهية.
إنّ معرفة زفايغ بعلمِ النفس مكّنته من تناول شخصيّاته وتفاصيلها الدقيقة بشكل عميق، عائِدا بالقارئ إلى ذاتِه، ففي طوفانِ فوضى الأحاسيس التي ستعيشها مع قراءتك لهذا العمل، سينتابك شعور ملتبِس؛ لكأنّ الرّاوي يدفعك للتعاطفِ مع الأسُتاذ إذ ينقل كاميرا الروايةِ لدواخلِ الأستاذ، للحالةِ النفسية التي يعيشها حينما تُقابل رغباتهِ بالنّبذِ والاستنكارِ والاستهجان، حين كان صبيًّا في المدرسةِ، وحين كبُر، وكيف أنّه كان يُصارع تلك الرغبة، بإخفائِها حينًا، وبممارستها في أقذرِ الأماكِنِ وأكثرها إثارةً للاشمئزاز حينًا آخر.
يتحدث الرّاوي عن الازدواجية التي دُفع إليها الأستاذ بفعلِ عدمِ تقبُّل المجتمع لمثل هذه الممارسات، فبين صورة الأستاذ الجامعي المحترم في قاعاتِ الدّرسِ نهارًا، وبين صورة الشّاذ الذي تجره شهواته للحانات الرِّطبة ليلا - مع رفاقٍ مشبوهين يبتزونه ما أن تنتهي الليلة أو يسرقون ممتلكاته- تتبدّل أدواره، ويعيش متناقضاته بصراع داخلي محتدِم.
يدفعك الرّاوي للتعاطف مع الأستاذِ بحنكةٍ مستفزة، إذ يأخذك لانفعالاتهِ، لعدمِ تقبّله للأمرِ، ومحاولاتِهِ، وضيقِهِ مما هو عليه، وما يُنظر بِه إليه.
فتسليطهُ الضّوء على محاولات الأستاذ للعودةِ للمسارِ الصّحيح، بالزواج ومكاشفة زوجته بما كان عليهِ، وتعاهدهما على المُضي لانتشاله، كلّها تجعل من الأُستاذِ ضحيةً تستدعِ التعاطف لا الاشمئزاز، فكما يذكُر في الرواية حين أقدم على الزواج (تسنى له قضاء بعض الأسابيعِ مرتاح البالِ خاليًّا من الهمِّ)، مبيّنًا أنّ الأستاذ لم يكن على تصالحٍ مع رغباته الشّاذة تلك.
يدفعك الرّاوي أيضًا للتعاطُفِ حين يستعرِض حالته ودوّامة الأحاسيس التي دخل فيها حين تسلم منصب البروفسور، مما جعله على تواصلٍ مباشر مع تلاميذ يافعين مدفوعين له بدافِع حبِّ المعرفةِ والعلم، إذ كان يتلظّى بين واجبِه كأستاذٍ جامعي شغوف بالأدب وعوالِمه وبين نزواه وشهواته تجاههم.
زفايغ في العملِ القصيرِ هذا العميق بأثرِه يأخذك لمعتركِ المشاعرِ والضّميرِ والتناقضات، لكنهُ يأخذك لحقل الألغام فِعلا كما ذُيلت كلمة الغُلاف في الصفحات الأخيرة من العمل تحديدًا، إذ تشهد الأحاسيس فيها تصاعُدًا كبيرًا، وفوضى عارِمة ستنتابك، ستخرُج من هذا العمل مرتبِكًا تتساءل هل أراد زفايغ بهذا النص دفعنا لتفهّم تلك الممارسات أم إلى تطبيعها؟ وهل يُمكننا كقرّاء ونحنُ ندخُل عبر هذا النّص إلى هذه العوالم فصل الانفعال الإنساني عن الحكم الأخلاقي؟
هل نتعاطف مع الأستاذ بعد تعرّفنا على ما ينتابه ويُعانيه أم ندينه؟
عملٌ كتبه زفايغ ببراعة وإتقان، لكنه تركنا في مواجهة فوضى أحاسيس متناقضة.
•بدرية العامري قاصة عمانية