تمثل الكتابة عن الموت وجعا مضاعفا يتخطى ألم الفقد، عندما تتحول الكلمات إلى مراثٍ لكاتب أو شاعر كان صانعها وصائغها، حين تنعى الكلمات صاحبها وسيدها، تنزع الغطاء عن روح المعاني ويتضح صدقها وينكشف عمقها، بل تحرض مفردات الوداع المشاعر على تدفق تعابير الأشجان والأحزان، خاصة إذا كان الفقيد بمنزلة الشاعر السعودي سعود القحطاني الملقب (بشاعر الجنوب) الذي فارقت روحه جسده في الجنوب العُماني. 

نستحضر هنا ما كتبه شاعر عن شاعر راحل، إذ يقول الشاعر السعودي عبدالله ثابت، في رثاء الشاعر السعودي مساعد الرشيدي (1962-2017) «إذا مات شاعر في مكان ما من هذا الوجود ماتت في مكان آخر شجرة، وتساقطت أوراقها قبل الفجر، إذا مات شاعر انطفأت نجمة، وتخاصم حبيبان، وضاع خاتم، وأصبحت الدنيا أقل... إذا مات شاعر أوصدت نافذة، وبكت خلفها الفتاة والسقف والوسادة، وإذا مات شاعر تنسى القهوة المواعيد، ويعتذر الطل من الزهرة، ولا يلتفت الصبح إلى وجه الحمامة... إذا مات شاعر غص بنغماته الناي، ويرجع الشتاء أشد كآبة». 

انتشر خبر يوم الاثنين الماضي يحمل «وفاة سائح إثر سقوطه أثناء ممارسة التسلق الجبلي في جبل سمحان»، يتعاطف الإنسان مع خبر كهذا ويتألم لفقدان إنسان سيترك غصة لدى أهله وذويه، لكن ألم الفقدان تضاعف حين اتضح أن الفقيد هو الشاعر سعود بن معدي بعد انزلاقه من إحدى قمم مرتفعات (حيور) في آخر سلسلة من سلاسل (دهق أصَلُوت) المعروف حسب التسمية العربية بجبل سمحان الاسم المُحرّف من الخرائط الإنجليزية التي رسمها ضباط وبحارة اندهشوا لرؤية وادي (صمحال) الفاصل جبل (صَلُوت) عن بقية السلاسل الجبلية المتاخمة لنيابة حاسك. أما عن تسمية (صلوت) فهي المنطقة الممتدة من شمال مدينة مرباط وتسمى (خه أصولوت) أي مدخل منطقة صلوت وتمتد إلى منطقة حدبين، وهي منطقة صخرية جافة. 

عرّجت روح الشاعر إلى السماء من جبل الصلاة، الشاعر الذي لُقِب بشاعر الجنوب رحل في الجنوب، هو ذاته الشاعر الذي مارس فنا يشبه أحد الفنون الظفارية، حين دخل إلى ساحة عرس الشاعر السعودي علي بن حمري، وأهدى العريس أبياتا شعرية وبعدها انتشر المقطع المصور ونال به الشاعر الفقيد الشهرة التي تليق به وبموقفه النبيل. يشبه الفن الذي أداه الراحل سعود بن معدي فن الزفن أو (الرُقد) وقد كتبت عنه مقالا في هذه المساحة قبل سنة بعنوان (فن الرُقد الأداء والممارسة): « يُعد فن (الرُقد) أو الزفان أحد الفنون الحماسية الذي يؤديه الذكور في محافظة ظفار، ويرتبط هذا الفن بفن الهبوت سواء كانت زامل أو (دان أدون). يتقدم مؤدي الفن ويسمى (إرِقْد) صفوف الرجال حاملا سيفه عند دخول الميدان، أو يدور في الحلقة المسماة (بالمدار أو آدوورت) التي تتشكل بعد دخول الجماعات الوافدة على الميدان، سواء كانت المناسبة وطنية أو اجتماعية. يخطو المؤدي خطوات عالية وأثناء ارتفاعه يهز السيف، يقاس احتراف المؤدي بقدرته على الارتفاع وعلى هز السيف دون إرجاعه للخلف أو إنزاله إلى الأرض، وذلك حفاظا على سلامة المؤدين والمشاركين في الهبوت». 

حتّم علينا رحيل الشاعر المغفور له سعود بن معدي القحطاني تتبع الإشارات الروحية التي قدّر المُقدر أن تكون خواتمها على جبل الصلاة وفي موسم يُعد من أجمل المواسم في ظفار، فشاعر الجنوب وممارسة فن الرقد وروح الشاعر النبيلة كلها إشارات دالة على أن يُخلّد ذكرى الشاعر في مكان سقوطه، بواسطة نصب تذكاري يترحم عليه زوّار المكان. 

يرحل الشعراء ليتركوا آثارهم في قلوب المحبين، ولكن قلوب البشر محكومة بالزوال والنسيان، ولذلك يتطلب وجود الشواهد للذكرى والخلود، رحم الله الشاعر سعود بن معدي الذي هز رحيله الخليج والجزيرة العربية، وأسكنه فسيح جناته. 

محمد الشحري كاتب وروائي عُماني