غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
كانت سلوى أبو عابد، الأربعينية، تجلس عند مدخل خيمتها في مخيم النزوح بدير البلح، تحيط بها رائحة الغبار ولفحات الحر، بينما يديها منهمكتان في ترقيع بنطال صغير لطفلها. على الأرض بجانبها، قميص ممزق وحذاء بالٍ، وكومة صغيرة من الخيوط والإبر، كأنها ورشة خياطة متنقلة في قلب المخيم.
تقول سلوى، وهي تمرر الإبرة عبر القماش ببطء: «منذ أن نزحنا من بيتنا، لم نعد نملك سوى ما نرتديه. الحرب طالت، والمعابر مغلقة، ولم تعد هناك ملابس جديدة في الأسواق. ثياب ابني الصغير تمزقت، فأصبحت أرقعها مرة بعد مرة».
خيوط الحياة
وتضيف وهي تمسح عرقها خلال حديثها لـ«عُمان»: «حتى الملابس المستعملة أصبحت بعيدة المنال. قبل عام، كان الزي الرياضي المستعمل بخمسة شواكل، واليوم أصبح بخمسة وأربعين. من أين لي بهذا المبلغ وأنا أعتمد على مساعدات الأونروا؟».
توضح سلوى أن الأحذية أيضًا صارت أزمة: «حذاء ابني أرسلته إلى ورشة التصليح مرات كثيرة، حتى أخبرني العامل أن المرة القادمة ستكون الأخيرة، لأنه لم يعد يحتمل الخياطة».
في عينيها مزيج من الإصرار والتعب، وهي تؤكد أن ما تمر به ليس حالتها وحدها، بل معاناة آلاف النازحين في غزة، الذين أصبح ترقيع الملابس أو شراء المستعمل سبيلهم الوحيد لستر أجسادهم في ظل الحصار.
حصار وغياب
منذ الثاني من مارس الماضي، يواصل الاحتلال الإسرائيلي إغلاق معبر رفح، لتتكدس خلفه الشاحنات المحملة بالبضائع، ومنها شحنات الملابس التي لم تصل إلى غزة منذ أشهر. بالتوازي، دُمرت عشرات المصانع والمحال التجارية بفعل القصف، تاركة رفوف الأسواق شبه فارغة.
لم يعد بإمكان الغزيين، خاصة النازحين، شراء ملابس جديدة كانت تصل قبل الحرب من إسرائيل أو عبر مصر. حتى الأسواق الشعبية التي كانت تعج بالملابس المستعملة، لم تعد قادرة على تلبية الطلب، بعد أن قفزت الأسعار بشكل غير مسبوق.
في مفترقات الطرق، تفترش أكوام الملابس البالية الأرض، ويتجمع الناس حولها في مشهد يصفه البعض بأنه «البحث عن إبرة في كومة قش». المقاسات المناسبة قليلة، ومعظم القطع بحالة سيئة، لكن الحاجة أقوى من المعايير.
كلما ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءًا، ارتفع الإقبال على هذه الملابس. لم يعد الأمر مقتصرًا على الفقراء، بل شمل حتى من كانوا يشترون الجديد قبل الحرب، بعد أن تساوت الظروف وأثقلت الجيوب الخاوية.
أعباء يومية
في سوق شعبي بمدينة خان يونس، كان عادل أبو شمالة (54 عامًا)، يفتش بين ركام الملابس المستعملة. بدا متعبًا، يرتدي تيشيرت قديمًا وبنطالًا مهلهلًا وحذاءً خيطه بيده.يقول لـ«عُمان»: «حين نزحنا، لم نأخذ شيئًا معنا بسبب ارتفاع تكاليف النقل. الآن، في هذا الحر، لم يعد لدي سوى رداء واحد وزوج من الملابس الداخلية. أغسلهما وأنتظر بجوارهما حتى يجفا لأرتديهما مرة أخرى».
ويضيف: «قبل الحرب، كنت أشتري ملابس جديدة لأطفالي مع بداية كل فصل، أما الآن، فنبحث عن أي قطعة مستعملة تناسبنا. أحيانًا أضطر لشراء ملابس أكبر من مقاساتهم لتخدمهم فترة أطول».
ويوضح: «المشكلة أن أسعار المستعمل أيضًا ارتفعت. البنطال الذي كان بعشرة شواكل صار بخمسة وعشرين. هذه الزيادة الكبيرة تجعلنا نحسب كل قرش قبل أن نقرر الشراء».
سوق البالة
وسط أزقة سوق غزة الشعبي، كانت إيمان عايش، الثلاثينية، تفترش الأرض بعرضها الصغير من الملابس المستعملة.تقول لـ«عُمان»: «أغلب من يأتون فقدوا عملهم أو مصدر دخلهم. لم تعد هناك ملابس جديدة أصلًا، فكل البضائع مكدسة عند المعابر. الناس مضطرة لشراء المستعمل، وبعضهم حتى هذا لا يقدر عليه».
وتتابع: «أحيانًا أرى أمهات يترددن كثيرًا قبل أن يدفعن ثمن قطعة لأطفالهن، يدرنها بين أيديهن، يتفحصن حالتها، ثم يتركنها لأن المبلغ يفوق استطاعتهن».
وتوضح: «حتى بيع المستعمل لم يعد يدرّ ربحًا كما كان. فالناس تشتري أقل، وأنا مضطرة لتخفيض الأسعار رغم أنها مرتفعة عليّ من الموردين».
ثمن قاسٍ
على طرف السوق، كان محمود الأشقر، الشاب العشريني، يخرج بكيس صغير يحوي قميصًا وبنطالًا.يقول: «لم أجد ملابس جديدة في السوق، فاضطررت لشراء المستعمل. لم أكن أتوقع أن أعيش يومًا أبحث فيه بين أكوام الملابس البالية، لكن لا خيار أمامي».
ويضيف لـ«عُمان»: «أعرف نازحين لا يستطيعون حتى شراء هذه الملابس المستعملة، لأنهم بلا دخل تمامًا. بعضهم يضطر لترقيع ملابسه مرات كثيرة بدل شراء أخرى».
ويوضح: «المؤلم أن هذه الأزمة لا تبدو مؤقتة. طالما المعابر مغلقة والمصانع مدمرة، لن يتحسن الوضع، بل قد يزداد سوءًا».
خراب تجاري
في هذا الصدد، يقول عائد أبو رمضان، رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة: «قطاع صناعة الملابس والأحذية في غزة تلقى ضربة قاسية منذ بداية الحرب، فقد دُمّرت عشرات المصانع بالكامل، وتضررت ورش ومخازن التجار، حتى أصبح كثير من أصحاب هذه المصانع والتجار في حالة إفلاس تام، وبعضهم بات يتسول ليؤمّن قوت يومه أو يستمر على قيد الحياة».
ويضيف لـ«عُمان»: «هناك عائلات كانت تملك مخازن مليئة بالبضائع قبل القصف، لكن معظم هذه المخازن تعرضت للتدمير، ولم يتمكن سوى قلة قليلة من إنقاذ جزء من بضائعهم. هؤلاء اضطروا لبيع ما تمكنوا من إخراجه من تحت الركام في الأسواق، حيث وجد فيه النازحون بديلاً على شكل ملابس مستعملة أو شبه جديدة، لكنها في النهاية محدودة الكمية».
ويوضح أبو رمضان: «منذ ما يقارب العام، لم تدخل أي شحنات من الملابس أو الأحذية المستوردة إلى قطاع غزة، بسبب إغلاق المعابر بشكل شبه كامل. هذا الانقطاع الطويل عن الأسواق جعل الاعتماد على الملابس المستعملة أمرًا حتميًا، سواء من بقايا المخازن التي نُهبت أو نُقلت، أو مما يصل من تبرعات فردية نادرة».
ويُناشد رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة المجتمع الدولي «التحرك العاجل للضغط على إسرائيل من أجل فتح المعابر وإدخال البضائع العالقة، بما فيها الملابس والأحذية، حتى نتمكن من إعادة تحريك عجلة الاقتصاد المحلي، وإنقاذ التجار والعمال، وتحسين أحوال الناس الذين أنهكهم الحصار والفقر».
وفي ظل الحصار المستمر والعدوان المتواصل على قطاع غزة، أصبحت الملابس المستعملة شريان حياة لآلاف العائلات، خاصة النازحين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم. مع إغلاق المعابر ومنع دخول الملابس الجديدة، ارتفعت أسعار الملابس المستعملة بشكل كبير، مما زاد من معاناة السكان.
وقبل الحرب، كانت أسعار الملابس المستعملة تتراوح بين نصف دولار إلى دولار واحد للقطعة، أما الآن فقد ارتفعت إلى حوالي 12 دولار للقطعة الواحدة.