تنبثق فكرة الجمال في الشكل السينمائي ليس بالضرورة من صميم الأحداث الواقعية والهادئة والمتوازنة بل أحيانا من صميم الفوضى وأحيانا من صميم العنف ومن داخل التحولات الاستثنائية الصاخبة، ولهذا خُلدت عبر تاريخ السينما أعمال قدمت قيما جمالية من صميم موضوعاتها المؤثرة.
وعلى هذا فإن جودة الإبداع هي التي سوف تكون معيارا موضوعيا بصرف النظر عن الموضوع، فليست جميع قصص العنف والجريمة منفرة ولا قصص الرعب ولا القصص ذات الطابع النفسي المنسوجة بعناية تعنى بشريحة محددة من المشاهدين، من هنا يمكننا النظر إلى أفلام مثل سلسلة جون ويك وسلسلة العراب وكانيبال وكراو وفجر الموتى وسلسلة رامبو وسلسلة ساو وليو وهالاوين وبلطجية نيويورك وسلسلة التطهير وتاريخ العنف وناتينجيل وقائمة القتل وماندي والمدينة وغير المتسامح والغرفة الخضراء والسنة الأعنف وغيرها من الأفلام.
وها نحن مع تجربة سينمائية ليست أمريكية ولا أوروبية ولكنها تحاكي ذلك النمط والمستوى الذي وصلت إليه عشرات الأفلام ذات الحرفية العالية من خلال هذا الفيلم للمخرج اديكان ييرزانوف من كازاخستان وقد حظي باهتمام نقدي ملحوظ لاسيما بعد مشاركته وعرضه في العديد من المهرجانات في الولايات المتحدة وأوروبا بنجاح.
فكرة العنف هنا تتعلق بذلك النوع من الصراع الاجتماعي الذي ينبثق من أوضاع اجتماعية وسياسية غير مستقرة وهي فكرة مموهة في الفيلم، فعلى الرغم من تحدث الشخصيات اللغة المحلية، إلا أن لا بلد محددا ولا مدينة للأحداث سوى العملية الفوضوية التي تعصف بالشخصيات انطلاقا من بداية الفيلم عن شخص مقنع يدخن سيجارته وسط فضاء صحراوي ممتد وإذا بنا مع محقق شرس -يقوم بالدور الممثل بيريك أيتزانوف- وهو ينضم إلى أجهزة الأمن في التحقيق مع متمردين، لكن وفجأة يقع هجوم على مكان السجن والتحقيق، فينقلب المحقق إلى فوضوي غريب.
في وسط فوضى الصراع، تظهر امرأة وهي تبحث عن ابنها الصغير الذي وببساطة شديدة كان يلعب في الخارج ولم يعد إلى المنزل وها هي تلجأ إلى الشرطة لغرض أن يساعدوها في البحث عن الطفل ولكن تمارا، الأم الطيبة -تقوم بالدور آنا ستارشينكو-تجد نفسها وسط تقاطع النيران دون أن تكون طرفا في ذلك الصراع والفوضى ولهذا تحار لمن تلجأ ومن الذي سوف يحميها.
يشكل ظهور تلك المرأة -تمارا- نقطة تحول جذرية في وسط تلك الدراما الفيلمية، فهي على أية حال المرأة الوحيدة في الفيلم، وهي بمثابة نقطة ضوء لفضح مؤامرات متعددة مثل تورط الزوج مع عصابة لتهريب الأطفال والاتجار بهم وربما يكون الطفل وقع ضحية تلك العصابة وهكذا ينقلب المحقق الشرير إلى باحث عن القصاص والانتقام من المعتدين على الأطفال ومهربيهم، ها هو بنظارته الغريبة يتنقل من صراع إلى صراع بينما يحاول حماية المرأة وإيصالها إلى طفلها وإنقاذه.
وكما ذكرنا، فقد حظي الفيلم باهتمام نقدي ملحوظ، ونتوقف هنا عند رأي الناقد برايان تايلور في موقع سينمن، حيث يقول :" إن هذا الفيلم هو بمثابة رؤية رائعة حقًا، تُشعِرك بعظمةٍ لا تُضاهى بفضل شخصياته المُبالغ فيها. لا يوجد الكثير من الحوار في الفيلم، لكن ما يُقال فيه يُعبّر عن الكثير، بفضل الأداء الذي لا حدود له. مشاهدة أيتزانوف ممتعة، تُذكّرنا بأداء مالكولم ماكدويل في فيلم "البرتقالة الآلية"، وخاصةً في طريقة استمتاعه بأفعاله. كل هذا يُضيف إلى انحدار الأحداث المُستمر نحو اليأس، والذي لا يزال يُلقي بظلاله على الفوضى. أقول إن هذا الفيلم ليس لضعاف القلوب، ولكن لمن يُحبّ تجربته، سيُحفر في ذهنه ويبقى أثره طويلًا بعد انتهائه".
بينما يقول الناقد ماكسين فينسينت في موقع فيلم سبيك "يُنسب الفضل لمن يستحقه : يجيد يرزانوف تأطير الصور اللافتة. هناك الكثير من اللقطات المذهلة في فيلمه التي تجعله يبدو مثيرًا للاهتمام إلى حد ما، خاصةً عندما يضع شخصية في قلب الحدث بينما يتحول كل شيء آخر في الخلفية إلى هراء حرفي ومجاز (ربما في إشارة إلى تقنيات جورج ميلر المبتكرة في تأطير المركز والتي أرشدت أعماله السينمائية من أول فيلم "ماد ماكس" إلى فيلم "فوريوسا: ملحمة ماد ماكس"). وهو يفعل ذلك كثيرًا مع تامارا، مما يُفاقم بدوره الصدمة التي تُكبتها، ويجعلنا في النهاية أكثر تعاطفًا مع محنتها في العثور على تيمكا من رغبة براجيوك في القتل بلا معنى".
لاشك أن فكرتي القتل بلا معنى والفوضى المجانية اللتين طغتا على الفيلم كانت توازيهما جذوة إنسانية عميقة ولكنها صامتة وبعيدة عن الصخب وغير مدججة بالسلاح، إنها في الواقع صرخة الأمومة الصامتة وصوت المرأة في وسط مجتمع مسلح متوحش يقتل بعضه بعضا ويجهز على حياة أي أحد من دون معنى ظاهر ولا سبب مقنع سوى أن الكل وسط تلك الفلاة يبحث عن فكرة السيطرة والاستحواذ.
ينجح المخرج بشكل ملفت للنظر في رسم كادراته ببراعة بفضل مدير التصوير بيتراليف فضلا عن التنوع في أوقات التصوير ومستويات الإضاءة، ويقدم خلال ذلك بيئة مفتوحة مثل ساحة مصارعة مليئة بنزعة الصراع من أجل البقاء، هنا تتوارى الشعارات الكبيرة والأيديولوجية لتسود تلك النزعة الفطرية الكامنة خلف فكرة التوحش الكامن في داخل البشر وخلال ذلك يتسرب الشر ليطال اضعف الكائنات ممثلة في الطفولة المستهدفة من خلال عمليات الاتجار وما شابه.
من جهة أخرى، هنالك مساحة تتسع للشخصيات لتعبر عن الذات ونظرتها إلى الآخر، وهو ما سوف ينعكس على تمارا التي تتبعثر أحاسيسها خلال بحثها عن طفلها، فتحار بهذا القدر من العنف وتصاعد الصراعات، فيما هي تقطع طريق الرحلة مع المحقق الشرس الذي تتقلب شخصيته ما بين البحث عن الطفل وبين العنف الذي لا هوادة فيه، انه كمن يدافع عن فكرة لكنه في وسط دفاعه عنها يخوض صراعات لا يعلم إلى أين سوف تقوده وكيف سوف تنتهي، وهنا تتحول جدلية الصراع في الفيلم إلى هامش مليء بالشجن الذي ينتاب الأم المحزونة التي لا تعرف كيف تترجم أسباب كل هذا العنف المستشري والى أين سوف ينتهي بالشخصيات المتصارعة.
إنها في الواقع تراجيديا شريحة بشرية هائمة على وجهها لا تعرف لغة غير الوصول إلى أهدافها ولو أحرقت ما هو إنساني ومجرد ومسالم، وهو اندفاع يشبه تلك الماكنة الضخمة التي تشق طريقها وتسحق ما يصدف أن يعترض مهمتها، ومن هنا وجدنا أن العنف ليس مكرسا لفئة أو مجموعة سوى تلك المسمّاة "مجموعة طه" والتي سرعان ما تتبعثر لتمضي الدراما الفيلمية إلى فوضى شاملة تتجسم بصخب وعصف شديد خلال بحث الأم عن طفلها في وسط صراع لا يرحم ولا يريد أن ينتهي.
....................
إخراج/ اديكان ييرزانوف
تمثيل/ بيريك أيتزانوف في دورالمحقق، آنا ستارشينكو في دور تمارا،
مدير التصوير/يرنبيك بيتراليفانتاج/ كازاخستان
التقييمات / آي ام دي بي 7 من 10، موقع كوليدور 4 من 5 ، موقع روتين توميتو 80%