تتفاوت طموحات البشر وفقا لآمالهم ومجالاتهم العلمية والوظيفية، خبراتهم العملية ومهاراتهم الإبداعية، لكن أغلبهم يحلم بالقرب من أصحاب السلطة ظنا منهم أن ذلك القرب يمنحهم مساحة من الاكتفاء المادي، ومساحات من الأمان الوظيفي بعيدا عن تلكؤ السلالم الوظيفية وتحديات البيروقراطية وتعقب المحيطين تنافسا واقعيا مبنيا على الكفاءات المتماثلة، أو عداءً ظاهرا أو خفيا مُحَركُه الغيرة والحسد، ومع التأكيد على مشروعية الطموح وضرورة توسيع آفاق الطموح ومدارك الأمل في الوصول لاستنجازه عبر أقصر مدة زمنية ممكنة إلا أن ذلك المبتغى المأمول محفوف بالمغامرة، وتلك المنزلة الرفيعة قد تصير وَبالًا على صاحبها حين تسكنه الحيرة بين خيارين قد لا ينجو من كليهما، وقد لا يملك دقة اختيار أيهما حينما يقع بين احتمالي الإخلاص والصدق في نقل المعلومة أو السعي لإرضاء قناة أو شخص السلطة التي يخدمها، وقد تصير هلاكا محضا إن كان ذلك الشخص مسكونا بالأنا العالية والمزاجية التي لا تقبل الاختلاف، غير معنيٍّ بالمخلصين من ناقلي الحقيقة والواقع دون زيف أوتحريف. 

من ذلك ما حدث لرئيس وكالة الاستخبارات في البنتاجون بعد إقالته من قبل وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث بعد بضعة أسابيع من رفض البيت الأبيض لمراجعةٍ تقييمية بشأن تأثير الضربات الأمريكية الأخيرة على إيران، حسب إفادة وسائل إعلام أمريكية، فقد أوضحت التقارير أن الفريق جيفري كروس لن يواصل مهامه كرئيس لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA)، كما شملت قرارات الإقالة شخصين آخرين من كبار القادة العسكريين في البنتاجون، وحسب مصدر تحدث لوكالة «رويترز» يوم الجمعة، عن إصدار هيجسيث أمرا بإعفاء رئيس الاحتياط، إضافة إلى قائد قيادة الحرب الخاصة في البحرية الأمريكية من منصبهما، ورغم صمت وزارة الدفاع عن أي توضيح حتى الآن بشأن قرارات الإقالة، إلا أن المحللين يحيلونها لشهر يونيو الذي رفض فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشدة تقريرا مسربا صادرا عن وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، أفاد بأن الهجمات على إيران تسببت في تأخير برنامجها النووي لبضعة أشهر فقط، بينما اعتبر البيت الأبيض أن تقييم الوكالة «غير دقيق على الإطلاق» وجادل الرئيس ترامب بأن المواقع النووية في إيران «دُمرت بالكامل» متهما وسائل الإعلام «بمحاولة التقليل من شأن واحدة من أنجح الضربات العسكرية في التاريخ»، فهل كانت الإقالة لعدم توافق التقييم ورغبة الرئيس، أم لتسريب التقرير مع محتواه الذي يتضمن مساسا بالقدرة العسكرية لأمريكا، أم لكليهما معا ؟ 

جدير بالذكر أن وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA) تعد إحدى وكالات البنتاجون، التي تركز على جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية لدعم العمليات العسكرية، وتجمع بيانات تقنية واسعة النطاق، مختلفة في مهامها عن وكالة المخابرات المركزية (CIA)، وضمن ردود الفعل اعتبر السيناتور الأمريكي مارك وارنر -في بيان- إقالة كروس علامة على أن ترامب لديه «عادة خطيرة تتمثل في التعامل مع الاستخبارات باعتبارها اختبارا للولاء وليس ضمانا لبلدنا» حيث قام بإقالة عدد من المسؤولين الذين اتُهموا بتعارض تحليلاتهم مع توجهات الرئيس، منها إعلان ترامب في يوليو الماضي إصدار أمرٍ لفريقه بإقالة مفوضة إحصاءات العمل إيريكا ماكينتارفر «على الفور»، عقب صدور تقرير أشار إلى التباطؤ في وتيرة التوظيف. 

ختاما، ليس من الإنصاف وقوف المخلص متأرجحا بين ضميره الوطني وبين طموحه الوظيفي ومصلحته المادية، كما أنه ليس من الخير لأي حكومة أو وطن توجيه المصالح الوطنية والقضايا المجتمعية وواقع الخطط والمشاريع بعصا من مزاجية أصحاب السلطة والنفوذ الذين يريدون لأنفسهم سجلا ذهبيا خاليا من المنغصات حتى مع إدراكهم أنه سجل وهمي وقّعته المصالح في محاولة لاسترضاء رئيس يلوّح بالعقاب للمخالف من مرؤوسيه ممن لا تتوافق خدماتهم ومزاج الرئيس ورغبته في تعظيم المنجز وتهويل المحدود، رغبته في شراء راحة البال بتقزيم المخاطر المحدقة واقعيا مما قد يتعاظم تراكميا بعده ليتبدى حينها خطرا حقيقيا يستحيل تجاوزه، بعد إمكانية تفاديه حال توافر إخلاص الطرفين رئيسا ومرؤوسا بموضوعية بعيدا عن المحسوبية والتزلف الشخصي على حساب العام من مصالح الوطن وراحة المواطنين، لا بد من وعي مجتمعي بضرورة تمكين المخلصين الصادقين دون المرائين المتزلفين، حينها وحسب تُحمد التضحية بالطموح أوان تعارضه ومصلحة الوطن لتتلبس الخسارات ثوب التضحيات ويتحول الهبوط المادي إلى رفعة قيمية جديرة بالثناء والتقدير. 

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية