غزة ـ «عمان» ـ د.حكمت المصري
في مشهد غير مسبوق، يصف الدكتور ذو الفقار سويرجو واقع القطاع الصحي في غزة بالكارثي، قائلا: «صيدليات غزة توشك على الإقفال، فهي خالية من كل شيء.
المريض لا يجد أبسط احتياجاته، لا مسكنات، ولا مضادات حيوية، ولا أدوية ضغط أوسكر أو حتى الغدة الدرقية، غزة تعيش التصحر الدوائي.»
ذلك الوصف الموجز يلخص مأساة عشرات آلاف المرضى الذين باتوا يصارعون أمراضهم بلا علاج، وسط حصار خانق وانهيار شبه كامل للمنظومة الصحية.
طارق ، شاب في عمر مبكر يواجه ضغط الدم وتصلب الشرايين
في أحد أزقة مخيم الشاطئ، يجلس طارق خليل (35 عامًا) وقد غطت العروق الزرقاء جبهته من شدة الصداع، بينما يحاول احتضان أطفاله الذين ينظرون إليه بقلق. يقول
بصوت متقطع: «أنا مريض ضغط دم وتصلب شرايين. كنت أتعاطى أدوية يومية تنظم نبضي
وتحمي قلبي من الجلطات. منذ شهرين لم أجد أي دواء، لا في الصيدليات ولا في المستشفيات ، كل ليلة أنام وأنا خائف من ألا أصحو في الصباح.»
طارق لا يعاني فقط من غياب الدواء، بل من انعدام الغذاء الصحي الذي كان يساعده على ضبط حالته. يضيف: «الأطباء نصحوني دائمًا بتقليل الملح والدهون وتناول الخضار والفواكه. لكن هنا، بالكاد نجد الخبز اليابس والمعلبات المفقودة. الجوع يضعف جسدي أكثر، ومع غياب الدواء أشعر أنني أعيش على قنبلة موقوتة.»
سماح... رحلة سرطان
بلا دواء ولا غذاء
في بيت متهالك غربي مدينة غزة ، تجلس سماح إبراهيم (37 عامًا)، وقد تساقط شعرها بسبب جلسات العلاج الكيماوي التي انقطعت منذ شهور. تحاول إخفاء ألمها بابتسامة لأطفالها الثلاثة، لكنها لا تصمد طويلا. تقول بعينين غارقتين في الدموع: «كنت أذهب بانتظام لمشفى الشفاء ، وأتناول الأدوية المساندة التي تبقي مناعتي قوية
، اليوم لا دواء ولا جلسات ، أشعر أن الورم عاد لينتشر في جسدي بسرعة، أطفالي يراقبونني وأنا أتعب وأضعف يوما بعد يوم، ولا أجد كلمات أشرح بها لهم لماذا لا أتعالج.»
سماح تشير أيضًا إلى نقص الطعام كعامل قاتل آخر: «مريض السرطان يحتاج لتغذية جيدة ليقاوم، لكننا هنا نعيش على العدس اليابس ورغيف خبز لا يكفي لثلاثة أطفال، لا حليب ولا فواكه ولا لحم، جسدي يستسلم للجوع قبل أن يستسلم للسرطان.»
في خيمة نزوح في مواصي خانيونس، يرقد محمود سكيك (55 عامًا) محاطًا بأطفاله وأحفاده الذين يحاولون تبريده بقطعة كرتون متهالكة. يعاني محمود من ضغط وسكّري والتهابات مزمنة وحصى في الكلى. يتحدث بصوت متقطع وهو يضع يده على بطنه المنتفخ: «أحتاج لأكثر من أربعة أنواع من الأدوية يوميًا.
بحثت عنها في كل مكان، لكن الصيدليات خاوية، كأنها متاحف بلا حياة. أشعر أن أعضائي تنهار واحدة تلو الأخرى. ابني يخرج كل صباح للبحث عن الدواء والطعام، ويعود خاوي اليدين.»
يضيف وهو يرفع نظره إلى السماء: «مريض السكّري يحتاج إلى غذاء متوازن، لكننا لا نجد سوى القليل من الطحين والأرز. الكلى تتطلب شرب ماء نظيف بكثرة، لكننا بالكاد نحصل على لتر واحد لكل العائلة. أشعر أنني أموت جوعًا وعطشًا قبل أن يفتك بي المرض.»
قطاع صحي يحتضر بحسب تصريح صادر عن مدير مستشفى الشفاء، الدكتور محمد أبو سلمية فإن أكثر من60% من قائمة الأدوية الأساسية غير متوفرة، فيما تعاني المخازن الطبية من فراغ شبه كامل، وسط استمرار الحصار ومنع دخول الإمدادات.
وأضاف أن المستشفيات مكتظة بالجرحى جراء القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع وأن هناك زيادة بعمليات البتر لعدم قدرة المضادات الحيوية على مواجهة البكتيريا ، لدينا أكثر من 200 مريض حياتهم مهددة بسبب نقص الأدوية وسوء التغذية. الأطباء يحذرون من «كارثة إنسانية بطيئة» ستؤدي إلى وفاة المئات يوميًا، ليس فقط نتيجة القصف أو الجوع، بل بسبب غياب الحبوب الصغيرة التي كانت تنقذ الأرواح بصمت ، ناقوس الخطر يدق أمام النقص الحاد جدا في الأدوية والمستلزمات الطبية نتيجة إغلاق المعابر. :«نعاني من عجز يتجاوز 90% في مخزون الأدوية ما
يهدد حياة آلاف المرضى والجرحى بشكل مباشر».
النهاية المفتوحة على المجهول
بين رفوف الصيدليات الفارغة وآهات المرضى العاجزين، يظل السؤال: إلى متى يبقى الدواء محاصرًا؟
في غزة، لم يعد الموت نتيجة الحرب فقط، بل أصبح أيضًا نتيجة غياب العلاج ونقص الغذاء، حيث يقف المرضى في طوابير لا نهاية لها أمام صيدليات خاوية، يحملون وصفاتهم الطبية كأوراق يتيمة بلا قيمة.
صرخة إنسانية للعالم
أمام هذا المشهد المروّع، يرفع الأطباء والمرضى في غزة صوتهم عاليًا: «الدواء حق أساسي للحياة، وليس رفاهية يمكن التنازل عنها».
إن استمرار الحصار ومنع دخول الأدوية والغذاء لا يعني فقط تدهور الوضع الصحي،بل يعني حكمًا بالإعدام البطيء على آلاف المرضى، من الأطفال المصابين بالأورام إلى كبار السن الذين يحتاجون إلى أدوية الضغط والسكري والقلب.
إنها صرخة إلى المجتمع الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، وجميع المنظمات الإنسانية: أنقذوا غزة من التصحر الدوائي ، أنقذوا المرضى قبل أن تُطفأ أعينهم واحدًا تلو الآخر، ليس بالقصف هذه المرة، بل بفقدان أبسط حقوقهم في العلاج والغذاء.