رغم أن نظرية «تصنيف الأجيال» تتداول كثيرًا، ويصار إليها في محاولة فهم السلوكيات والاتجاهات التي تنشأ عن الأفراد في أعمار معينة؛ إلا أنه في السياق العربي يندر أن تجد محاولات علمية أو فكرية معمقة لفهم طبيعة الجيل، والدوافع المتعددة التي تساهم في تشكيله؛ سواء كانت تلك الدوافع مرتبطة بالسياق الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي، أو الحالة السياسية للمجتمع الذي ينشأ فيه، أو الأحداث التي تحدد الطريقة التي يفكر بها الجيل ويتصرف بها ويشكل من خلالها نظرته لذاته، ولمجتمعه، وللعالم، والنظام الذي ينتمي إليه، سواء كان ذلك النظام سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا، أو حتى فكريًا. على سبيل المثال نشأ الجيل جيل زد (Generation Z) في سياق تحول العالم إلى قرية كونية إلكترونية، حيث يُعرف بكونه مشكلًا من مواليد الفترة بين عام 1997 و 2012 مع بدايات توسع وانتشار الاتصال عبر الإنترنت، وامتداد الرقمنة إلى مجالات التواصل والتعليم والأعمال، وظهور فكرة العلاقات الاجتماعية الافتراضية، ورغم وجود أحداث كبرى عرفها العالم خلال هذه الفترة سواء كانت أحداث سياسية كبرى، أو أزمات اقتصادية ومالية إلا أن التحول الرئيسي الذي صاغ نمط الجيل هو الثورة الرقمية، فجعلت منه أكثر ميلًا للالتزام بالحضور الافتراضي، وأكثر ميلًا للانفتاح على مستجدات العالم، وتقبلًا للاختلاف مع الثقافات الأخرى، وأقل ميلًا للالتزام بالحضور والعلاقات والأنماط الواقعية من التفاعل البشري، كما أن جزءا كبيرا من الجيل تشكلت لديه القدرة في خلق حضورين (Realistic Defined Character - Virtually Designed Character) مع قدرته على فصل كل منهما بطريقة ذكية، هذا الجيل كذلك مع صيرورة الأحداث التي عاشها في فترة تشكله أصبحت لديه سمة المرونة أكبر من سابقه من الأجيال، المرونة في التعاطي مع واقع متغير، وتوقع الأحداث المفتتة (تلك الأحداث البسيطة التي يمكن أن تشكل تحولات كبرى)، عاش هذا الجيل صراعًا مع عدم اليقين، على عكس الجيل الراهن الذي يشار إليه بجيل ألفا (Generation Alpha) الذي أصبح عدم اليقين والغموض جزءًا رئيسيًا مع ذاته الاجتماعية والثقافية، دون مقاومة ومع محاولة مستمرة منه لخلق الواقع الذي يريده.
يصعب في هذه المساحة سرد كل جيل على حده وسماته والظروف التي تشكل فيها، ولكن ما يعنينا هنا تبيان الإجابة على سؤال: لماذا من المهم أن نفهم تحولات الأجيال بعمق؟ ولدينا أربع حجج لذلك؛ الأولى أن القدرة على فهم تشكل الأجيال وتحولها يعني بالضرورة قدرة الدولة والمجتمع على بناء نظام تنشئة اجتماعية متكامل يتناسب مع طبيعتها، ولا يشكل تصادمًا مع تكوينها النفسي والاجتماعي، ويكون مرنًا في التعامل مع دوافعها، وأكثر قدرة على توجيه سلوكها واتجاهاتها الفكرية، سواء كانت عمليات التنشئة المرتبطة بمفاهيم الأسرة أو الإعلام أو الخطاب الديني أو تصميم مؤسسات التقاء الأقران بما فيها المؤسسات الثقافية والرياضية والترفيهية. أما ثاني الحجج فيرتبط بقدرة الدولة على تصميم سياسات عامة أكثر احتواء لتحولات الأجيال، بما في ذلك وأولها النظام التعليمي وتركيبته. إننا اليوم في أمس الحاجة إلى تهيئة هذا النظام كبنى أساسية، ومضامين، وعمليات، وفاعلين بطريقة يستطيع من خلالها أن يجتذب الأجيال ويخاطب تحولاتها الكبرى في طريقة التفكير والتدبير، ولكن ذلك لا يتأتى إلا من خلال فهم معمق لطبيعتها النفسية والاجتماعية. ثالث الحجج التي نوردها هو في فعالية الاتصال السياسي، ما يشكل جزءا كبيرا من القناعة بأداء الحكومات وعملها وسياساتها هو ما يعبر عنه ويعتقده الأجيال الحديثة تحديدًا جيلي زد (Generation Z) وألفا (Generation Alpha) باعتبارهم الأكثر نشاطًا في التفاعل مع هذا الاتصال، وباعتبار مكنتهم في الوصول إلى أدوات تعبيرية أكثر، وخلق سياق أكثر انتشارًا للرأي العام وتوجيهه، سواء عبر المنصات الرقمية، أو الفضاءات الواقعية، وبالتالي فإن فهم تحولات الأجيال يشكل قدرة للدولة على خلق اتصال سياسي أكثر فاعلية، وقدرة على أكثر على حشد وتعبئة جهود تلك الأجيال في خدمة التنمية وعملياتها المختلفة. رابع الحجج التي يسعنا ذكرها هو أن قدرتنا على فهم الأجيال تعني القدرة على خلق المعنى لعمليات التنمية المختلفة، بما في ذلك النمو الفكري والثقافي للأفراد؛ فعلى سبيل المثال يعاني الفعل الثقافي الرسمي/ المؤسسي في الكثير من دول المنطقة اليوم من الانسحابية، وغياب الجاذبية، وخاصة من الأجيال الحديثة، ذلك أن المعنى الذي يؤطره ويقدمه قد لا ينسجم مع الطبيعة الناشئة لهذه الأجيال، وبالتالي فإن فهمها يعني القدرة على تصميم فعل ثقافي وتنموي بالعموم أكثر انسجامًا ووصولًا لطبيعتها وقدرة على محاكاة اتجاهاتها.
إن من أكبر العتبات التي تقف اليوم أمام مسألة فهم الأجيال ثلاث عتبات: الميل إلى إطلاق أحكام أخلاقية أو اجتماعية أو وصوم لأفراد الجيل دون فهم للدوافع والمسوغات التي تشكل سلوكهم وطبيعتهم، والاعتداد بالملاحظة والتعميم الشمولي لتفسير سلوكيات واتجاهات الأجيال دون جهد في الدراسة والتنقيب المعرفي المتكامل (نفسيًا واجتماعيًا) لطبيعة تشكل كل جيل، وثالثها التعامل مع الأجيال بوصفها جزر معزولة عن بعضها، أو مناطق تاريخية محاطة بحدود فاصلة بينها وبين الأجيال الأخرى، والحقيقة أن الأجيال متداخلة ومتصلة، وكل جيل يؤثر في الآخر، كما أن هناك عوامل مشتركة تسهم في إيجاد المناطق البينية في تصرفات وسلوكيات واتجاهات الأجيال ولعل أهمها المعرفة الرقمية، التي أصبح امتلاكها يشكل جسرًا للكثير من التوافق بين أجيال مختلفة. ولكن ينقصنا الكثير من الجهد المعرفي المؤسس للتعامل مع هذه التحولات وتتبعها وتبين مناطق الالتقاء والافتراق بينها، وسنحاول في الجزء الثاني من هذا المقالة تتبع بعض السمات للأجيال الحديثة بالتركيز على دوافع أنماط سلوكها، ومحددات اتجاهاتها الفكرية.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان