في بيروت أتعلم أسلوبًا مغايرًا في المشي عن ذاك الذي اعتدته في مدينة مثل مسقط. كنت بحاجة ماسّة إلى مدينة أخرى كي أعرف مدينتي كما هي. وستصبح بيروت، منذ زيارتي الأولى لها في فبراير الماضي، علامة مرجعية للمقارنة بين مدينتين أزعم أنني أنتمي لكل منهما بمعنى مختلف للانتماء، ودون أن أشعر بانقسام حادّ على نفسي، بل أكتشف في التردد الفيزيائي والنفسيّ بين الجهتين مداخلَ جديدة لما يمكنني وصفه بالنقد المقارن بين المدن، وهو منطلق لمشروع كتابة أجدني توَّاقًا له في هذه المرحلة. أبحث عن كتابة تنهض من تشبيك مسقط مع مدنٍ عربية أخرى (عواصم شعرائي المفضلين: بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد وصنعاء)، كتابة تذهب دائمًا لتعريض مسقط لسؤال التشابه والاختلاف مع هذه المدن. مهما بدا عصيًا على الاستنطاق في بادئ الأمر، إلا أن تعريض مسقط لهذا السؤال يصبح ضرورة ثقافية وسياسية متأخرة لنفي عزلتها ودمجها أكثر مع محيطها العربي في جغرافيا نص جديد قديم.
أرفض أن أذهب إلى بيروت سائحًا. وأرى في ذهابي لها «عودة» بمعنى ما. وحينما دونتُ في دفتري «صورًا سياحية للأبيض المتوسط» كنت أتعمد أن ألطّخ صورها السياحية بما ليس سياحيًا بالمرة. كنتُ أحاول أن أخرج من مديح الجماليات السهلة إلى هجاء لبنان السياحيّ، الرأسمالي الفاقع، الذي تكشف «سوليدير» الحريري عن أبلغ تجلياته. سخرت صديقة لبنانية مني بقولها: إن كل لبنان سياحيّ في نهاية المطاف، باستثناء الضاحية الجنوبية.
أكتشف دنيا اللبنانيين هذه المرة في صيف «آب اللهَّاب» كما يصفه أبو حسين، سائق سيَّارة الأجرة، ودليلي في مجاهيل المدينة، وواسطتي في حواجز تفتيش الجيش المنصوبة على طريقنا نحو الجنوب. يتحدث الناس عن موجة حر لم يشهدها لبنان منذ سنوات، في طقس نقيض تمامًا لطقس زيارتي الأولى قبل ستة أشهر في عز البرد. ولكن بيروت تبدو أكثر واقعية في صيفها الرطب، تجريديةً أكثر، وعارية من المطر الشتوي الذي لا يزيد ليلها إلا التباسًا على الجسد الصحراوي الغريب عن طينة هذه البلاد. يخفف الصيف من ذروة النوستالجيا، ولكنه لا يطرد الذكريات التي تخرج من كل شيء، من سيرة الأحياء والأموات في هذه المدينة التي يعتمد سكانها على النسيان أسلوبَ حياة لتجاوز فداحة الأمس.
يخرج الشارع من الشارع. تدخل البناية في البناية. المدينة تفرض نفسها على ساكنيها. والمكان كائن يكوّن كائناته. من مقبرة ضحايا صبرا وشاتيلا إلى أشباح البنايات المهجورة منذ الحرب الأهلية كمقتنيات متحفيّة جاهزة، مرورًا بأرصفة وزواريب ندوس فيها على خطى أشباح المقاتلين الفلسطينيين، تأخذني من يدي قصيدة إتيل عدنان عن «بيروت 1982» عندما حاصر بيجن المدينة كي «يقتل غابة من الرجال».
«هل تعلم؟ هل سمعت؟
هل أبلغوك
أنّ الناسَ تركض
في الشارعِ باحثةً
لا عن أحذيتها
بل عن أقدامها؟
ولا تبحث في الكوابيس
بل أمام التلفزيون تبحث؟
قيظُ شمس
قويّ في لبنان لدرجة
أنّ الكاميرات اختفت».
«رحل الرجال إلى الرحيل» كما وصفهم محمود درويش في «مديح الظل العالي». رحلوا عبر البحر قبل ثلاثة وأربعين عامًا بالضبط من موعد زيارتي. رحلوا إلى «الرحيل» لأن الرحيل كان وجهتم الغامضة، فالرجال الذين تجمَّعوا في الملعب البلدي قبل صعودهم على متن السفينة كانوا يكذبون على أمهاتهم وزوجاتهم في تحديد وجهاتهم التالية بعد لبنان. هكذا كانت تعليمات القيادة. من كان ذاهبًا إلى دمشق قال إنه ذاهب إلى تونس، ومن كان ذاهبًا إلى اليمن قال إنه ذاهب إلى السودان أو الجزائر... وهكذا كان الفلسطيني يكمل دورته في الرحيل من المنفى إلى المنفى.
بيروت كرة تدور على نفسها مثل كوكب الأرض. فحتى لو أخذتك غواية التوهان ستجد نفسك عائدًا للشارع نفسه بعد حين كمن يدور على نفسه. لا تشبه مسقط التي تستطيل وتتمدد وتكتشف كل يوم قابلية جديدة للتوسع خارج حدودها. السرُّ هو البحر. أنسى مسقط حين أضيع قِبلة البحر وسرعان ما أفقد خيط المقارنة. الأبيض المتوسط المذبوح على اليابسة من طرابلس إلى صور كان أول الدهشة، وكان مفتاح التشابه الذي فتح لي باب القصيدة بالسؤال: «أين التقيتُ بهذا البحر؟» ليس بالضرورة أن نرى البحر من كل مكان أو زاوية، لكنني أشعر به كما أشعر به في مسقط؛ يحتل خلفية التفاصيل كلها في المدينة ويغذي الجماليات المتحركة والساكنة بملح فتنتها.