(1)
قد يتوقف الكثيرون أمام هذا العنوان متعجبين قليلا أو كثيرا؛ فهو من العناوين التي تعود بالذاكرة إلى قديم التراث وإلى التلاعب بالألفاظ وظلال من غموض يحيط بالكلمتين اللتين تتصدران العنوان فحروفهما واحدة ونطقهما واحد! وأما مؤلفه فقد يكون اسمه الآن مدعاة لاستدعاء علامات الاستفهام بوفرة بين أبناء الأجيال الحالية. فمن يكون عبد الرحمن صدقي هذا؟ وما عنوان كتابه الغريب؟
أحاول في هذه الحلقة أن ألقي بعض الضوء على هذا الكتاب النادر الذي شكّل صدوره في أربعينيات القرن الماضي، ثم طبعته الثانية المزيدة (صدرت سنة 1957)، تحفةً فنية وأدبية رائعة ورائقة؛ فقد توفَّر على تأليفه وجمع نصوصه الشاعر الأديب المثقف واسع الثقافة والاطلاع عبد الرحمن صدقي (1896-1973)، أحد نجوم الشعر والكتابة وأعلامها في الثلث الأوسط من القرن العشرين، واقترن اسمه بأكبر الكتاب والشعراء والنقاد -آنذاك- وعلى رأسهم أستاذاه المباشران إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس العقاد. وصمم غلاف الكتاب ورسم لوحاته الداخلية بالألوان الفنان الكبير المبدع بيكار أحد نجوم الرسم والتصميم والإخراج الفني الذين تألقوا في دار المعارف في ذلك الزمان.
(2)
أما الشاعر والكاتب والأديب عبد الرحمن صدقي، لمن لا يعرفه من قراء هذا العصر، فشاعر ومثقف مصري كبير من مواليد المنصورة أواخر القرن التاسع عشر (تحديدًا 26 ديسمبر 1896) وقد انتقل مع أسرته إلى القاهرة حين عمل والده موظفًا في محافظة القاهرة.
حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، وعلى الثانوية من المدرسة الخديوية التي تعرف فيها على أستاذه العلم الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، الذي كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية، وعن طريق المازني تعرف عبد الرحمن صدقي على عباس محمود العقاد، وقد ظلت صلته بهذين الرائدين وثيقة إلى نهاية عمريهما، واقترن اسمه باسمهما، وقدم له العقاد واحدًا من ديوانيه المنشورين.
نشر عبد الرحمن صدقي أول قصيدة له في مجلة «عكاظ» عام 1914 وهو في الثامنة عشرة من عمره، وظل ينشر في هذه المجلة بعد ذلك قصائده وترجماته لبعض قصائد أعلام الرومانسية الإنجليز أمثال شيلي وكولريدج وكيتس. وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (تعادل الثانوية الآن) عمل موظفًا بوزارة المعارف (التعليم)، وفيما بعد، انتدب مستشارًا للتلفزيون المصري بعد إنشائه، ثم نقل إلى دار الأوبرا، وظل يرتقي في وظائفها إلى أن عيِّن مديرا لها.
وقد أصدر الشاعر ديوانين، أولهما «من وحي المرأة» (1947) خصصه لرثاء زوجته الإيطالية بعد وفاتها، وحين صدرت طبعته الثانية عام 1949 تضمنت قصائد الطبعة الأولى تحت عنوان (الجزء الأول: الحب والموت)، وقصائد جديدة تحت عنوان (الجزء الثاني: عود على بدء) ثم (الجزء الثالث: الرحلة إلى إيطاليا) ثم (الخاتمة).
وتعتبر هذه الطبعة الثانية، النسخة الكاملة لديوان «من وحي المرأة»، وصدر له بعد ذلك ديوان: «حواء والشاعر» وكتب مقدمته العقاد. وشعره -في الجملة- أميل إلى المحافظة وانتهاج النموذج التقليدي الموروث، لكنه يتميز بعمق العاطفة وعصرية الصور. هذه لمحة موجزة عن عبد الرحمن صدقي الشاعر.
أما عبد الرحمن صدقي الكاتب المعروف الذي اشتهر في الأوساط الثقافية العربية بكتبه الممتازة فقد كان أديبًا واسع الثقافة والاطلاع، وكاتبا مرموقا ذائع الصيت، يجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وله مؤلفات وكتب ودراسات منشورة في الأدب والفن والتاريخ والاجتماع، منها كتابه الصغير الذي صدر في سلسلة (اقرأ) العريقة عن «أبي نواس» (1944)، الذي طبع عدة مرات وما زال يطبع حتى الآن، وكتابه الأهم والأكبر والأمتع «ألحان الحان» الذي يصور حياة أبي نواس اللاهية. وله تراجم لحياة كبار الأدباء الأوروبيين والعالميين؛ مثل: «بودلير الشاعر الرجيم»، و«الشرق والإسلام في أدب جوته»، و«طاغور والمسرح الهندي»، كما نشر أبحاثه ودراساته في كثيرٍ من المجلات والصحف؛ مثل: «الهلال»، و«الثمرات»، و«عكاظ»، و«الشهر»، و«المصري» وغيرها. وقد رحل عن عالمنا في عام 1973.
(3)
ونصل الآن إلى الكتاب؛ الذي يعد من نوادر وكنوز النشر العربي في القرن العشرين؛ «ألحان الحان» الذي يقع فيما يقرب الـ 400 صفحة من القطع الكبير، وهو مكون من كلمتين «ألحان» الأولى، وهي جمع مفردها لحن أي نغم، وهو ما اتصل بالموسيقى وتلحين الكلام (الشعر)، وما اتصل بذلك أيضًا من الغناء والطرب.
أما كلمة «الحان» الثانية؛ فهي جمع أيضًا مفرده «حانة» والحانة هي المكان الذي يشرب فيه الخمر أو يتعاطاه روادها، لكن ليس هذا فقط هو المقصود منها باعتبارها مكانا للشراب، بل ما اتصل بهذا الفضاء المكاني من حراك ونشاط كان محوره الشعر والغناء؛ واللهو والطرب، والرقص والقيان.. إلخ، ما عرف من أنماط السلوك الاجتماعي والثقافي في تلك الأزمنة.
والشخصية التي اتخذها عبد الرحمن صدقي مدخلًا وموضوعًا للحديث المستفيض عن «الخمر» و«الحانات» و«الأديرة» وحركة البيع والشراء والتجارة والذهاب والإياب على طرقها ومسالكها وغير ذلك مما كان موجودا في العصر العباسي، هي شخصية النواسي (أبو نواس) الذي خصه عبد الرحمن صدقي باهتمامه، ووضع في سيرته رسالته الموجزة (أشرنا إلى صدورها في سلسلة (اقرأ) عام 1944)، وكتب مقالات عديدة إلى أن خرج على قراء العربية ومحبي الأدب والشعر والتاريخ بهذا المرجع الجامع الفريد.
إذن فكتاب «ألحان الحان» لعبد الرحمن صدقي، واحد من الكتب الأدبية الفريدة التي مزجت مزجًا بديعًا ورائعًا بين الموروث الشعري العربي (ممثلًا في نتاج أحد أكبر شعرائه في العصر العباسي، وهو أبو نواس) وبين التاريخ الأدبي والاجتماعي والثقافي لتلك الفترة متخذا من الموضوع الشعري الأبرز والمفضل عند أبي نواس (الخمر) موضوعا للبحث والاستقصاء والتنقيب.
وهكذا دارت فصول الكتاب حول الإنتاج الفني والأدبي والشعري الذي أبدعه شعراء وأدباء وكتاب الحضارة العربية والإسلامية، عموما، في أزهى عصورها فيما بين القرن الثاني للهجرة، ونهاية القرن الخامس.. تلك الفترة التي زهت وازدهت بحركة فنية وحضارية نقشت بحروف من نور وذهب في سجل الإنسانية.. متخذًا من سيرة أبي نواس وحياته اللاهية العابثة، موضوعا للدراسة الجادة والبحث الدقيق والتحري التاريخي الموثق، في إطار سياقه الاجتماعي والحضاري والثقافي، ومتخذا من شعره مادة له؛ أعمل فيها قريحته وأعاد توظيفها وترصيع نصه بها في صياغة عصرية جمعت بين الجمال والعذوبة، وروح الأدب العربي وبهاء نصوصه وازدهار الحضارة..
وقد توقف عبد الرحمن صدقي وقفات متأنية أمام جوانب من الحياة الاجتماعية والثقافية التي ميزت تلك الفترة من ترف ولهو ومجون واحتفاء بالشراب ومجالس الطرب والغناء وما تخللها من شعر إلخ.
(5)
باختصار مثَّل الكتاب «موسوعة» أدبية وفنية واجتماعية مصغرة للعصر العباسي، بما عرف به واشتهر عنه من اتساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، ودخول عناصر غير عربية الإسلام، وحدوث عملية الاحتكاك والتفاعل الحضاري والثقافي بين العرب المسلمين وغيرهم ممن دخلوا الإسلام من غير العرب، أو من غيرهم ممن بقوا على دينهم سواء كانوا عربا أم غير عرب.
وكل ذلك في إطار عملية المزج الحضاري والثقافي التي شهدها هذا العصر المتخم بالشعراء والكتاب والغناء والمغنين، في الوقت الذي برز فيه فقهاء ولغويون ونحاة ورحالة ومتكلمون، وهو العصر الذي ازدهرت فيه الترجمة ونقلت فيه إلى العربية عيون الإبداع والفكر والثقافة من اللغتين الفارسية واليونانية، وكذلك عن السريانية..
صدرت الطبعة الثانية من الكتاب عام 1957 ومنذ ذلك التاريخ لم تخرج أي طبعة أخرى في دقة ووضوح ونقاء الأصل الذي صدر عن (دار المعارف) في فترة ازدهارها وتربعها على عرش حركة النشر في مصر والعالم العربي. ومن حسن الطالع أن تعد دار المعارف لطبعة جديدة مأخوذة عن هذا الأصل النادر محتفظة برسومها ولوحاتها وإخراجها الفني.