يبدو أن الإنسان لم يستطع أن يحاكي نفسه بنفسه لخوف، أو لقصور في ذاته عن تحمل مسؤوليته؛ للحالة التغيُّرِيَّة التي يعيشها بين فترة وأخرى بين فقر وغنى، وجهل ومعرفة، وضعف وقوة، فلجأ إلى غيره من المخلوقات؛ ليجد من خلالها متنفسا فيسقط الكثير من ممارساته التي لا يريد أن تنسب إليه بصورة واضحة ومباشرة، وحتى لا يكون الإلصاق المباشر به يظهر نوعا من الصفاقة غير المحمودة سوف يحملها على عاتقه أبد الدهر. ولذلك يوجد مبررات لتصرفاته تحت عباءة مجموعة من الإسقاطات التي يسقطها على المخلوقات من حوله؛ فالمكر أسقطه على الثعلب، والخضوع والتملق أسقطه على الكلب، والجبن أسقطه على الدجاجة، والبلاهة أسقطها على الحمار، والجبر والتكبر أسقطه على الخيل، والحقد الدفين أسقطه على الجمل، والتملص أسقطه على الأفعى، وكما قال عنترة بن شداد: «إن الأفاعي وإن لانت ملامِسُها.. عند التَقَلُّب في أنيابها العطَبُ».
وبهذه الإسقاطات أعطى الإنسان نفسه شيئا من مرونة الحركة، وأريحية التصرف، وأوجد لنفسه مساحة «خط رجعة»؛ ليحفزه على الاستعداد للخطوة التالية، وبذلك فلن يجد ما يعترض طريقه، أو يلومه، أو يحمله الآخر – من أمثاله – شيئا من المعروف؛ فمن منا يرضى أن يوصف بالمكر، أو الجبن، أو الحقد الدفين، أو التملص من الالتزام، أو البلاهة، أو الجبر والتكبر، أو المذلة والخضوع حتى وإن كان مع قرارة نفسه يدرك أن شيئا من كثير من هذه الصفات يتمثلها ظاهرا، أو باطنا مع ذاته. وبذلك ليس فقط يعفيه عن الوصف المباشر من قبل الآخرين من حوله، بل يتيح له الفرصة؛ لأن ينتقد الآخرين من حوله، وقد يقول بصوت مرتفع: فلان جبان، وفلان ماكر، وفلان منتهز للفرص، وفلان حاقد، وفلان ضعيف، وفلان متكبر، وفلان أبله، مع أن الحقيقة الصادمة أننا لن نخلو من هذه الصفات - وإن لم تكن مجتمعة - فهي فينا، وتظهر في مواقف كثيرة عند مجابهة الأحداث؛ ولذلك نلوذ بالفرار حتى لا تنكشف هذه الأنفس الفطرية التي نختزنها بين ذواتنا المتضخمة بالمظاهر الاحتفالية: ملابس، سيارات، منازل، مناصب، وجاهات اجتماعية، صور مختلفة من الشهرة؛ حيث نضع كل هذه الصور «متاريس» تصد عنا تقييم الآخرين من حولنا؛ لأن الصورة النمطية المرتسمة في المخيلة الاجتماعية لمختلف ممارسات «الصفاقة» خلاص أسقطناها على الكائنات من حولنا، والتي هي لا حول لها ولا قوة لكي تدافع عن نفسها، فتبرئها من ذلك «براءة الذئب من دم يوسف – عليه السلام –».
والسؤال هنا: هل وضع هذه المتاريس «الإسقاطات» هو خوف من النفس، أم خوف على النفس؟ فإن كانت الأولى: فمعناه عدم القدرة على تحقيق شيء من استحقاقات الأنفس، وهي المجابهة والمقاتلة، وتعرية الأفعال المشينة، وأن كل الصور الاحتفالية المستخدمة لا تغني شيئا. ففي لحظة فارقة سوف يتعرى الإنسان، وتظهر حقيقته، وأن كل الممارسات التي أتى بها لتغطية سلوكياته المشينة لن تشفع له بشيء على الإطلاق. وإن كانت الثانية فإن الإنسان يبدو أنه ضعيف، ومهزوز، وجبان، ومتخاذل، وأن إسقاطه لكثير من الصفات التي يتمثل بها على الحيوانات من حوله، وهو نوع من الهروب من الواقع؛ حتى يحافظ على شيء من جمال الصورة فقط؛ ولذلك، ومع تقدم العمر تبدأ الصور الاحتفالية تتلاشى شيئا فشيئا؛ حيث يدرك الإنسان عندها أنه أضاع كل عمره في الجري وراء سراب استقصى مساراته جريا دون أن يصل إلى نتيجة ترضيه، وبالتالي عليه أن يتلقى سهام الندم، والحسرة، فتضمحل الصورة الاحتفالية للحياة أمامه، ومن حوله، ولا يرى فيها سوى صورة مهشمة أسهم بنفسه على تهشيمها بفعل ممارساته غير الواعية، وغير المدركة حقيقته كإنسان.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عُماني