تسيل دماء شعب غزة يوميًّا على مرأى من العالم، ونحن نشاهد الدموع في عيون الأطفال الذين يتضورون جوعًا، أو يبكون فقدان أحد أبويهم أو كليهما، ونشاهد الدموع في عيون الأم الثكلى والزوجة المكلومة التي ترملت. أكثر المشاهد ترويعا هي تلك الهياكل العظمية التي لا تزال حية، ولكنها تُشرف على الموت في سكون. أظن أنه لا يقوى إنسان على متابعة تلك المشاهد من دون أن يشيح بوجهها عنها؛ بسبب عدم القدرة على احتمالها، فلا يقوى على ذلك سوى الصهاينة ممن تجردوا من المشاعر الإنسانية، بل إن بعضهم يستمتع بها بالتأكيد، خاصةً أولئك الذين يدعون علنًا إلى إبادة الشعب الفلسطيني، وقتل أطفاله. كما أننا نشاهد الأحداث المروعة لاستشهاد الصحفيين والمصورين الذين يستهدفهم جيش الاحتلال، ولعل آخر هذه الأحداث المتكررة قتل الصحفي أنس الشريف ورفاقه. روَّج الاحتلال للقول بأن أنس ينتمي إلى حماس، وهي أكذوبة أخرى من أكاذيب الاحتلال التي لا تنتهي لتبرير عدوانه الوحشي؛ فهل كان أنس يحمل سلاحًا، أم ينقل الحقيقة التي تجري على الأرض؟ وهل كان زملاؤه ينتمون إلى حماس؟ وماذا عن شيرين أبو عاقلة الصحفية الفلسطينية المسيحية وكل الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلهم الاحتلال والذين بلغ عددهم مائة وثلاثة منذ أحداث السابع من أكتوبر؛ هل كانوا ينتمون أيضًا إلى حماس؟!
كل هذه المشاهد المروعة لجرائم القتل والإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بشكل متواصل ومنهجي منذ قرابة سنتين تستدعي السؤال: مَن المسؤول عن استمرار هذه المجازر الوحشية التي تجرمها كل القوانين والمعاهدات الدولية؟ وإلى متى تستمر هذه المجازر؟ ذلك سؤال كاشف عن أزمة الضمير الإنساني العالمي عمومًا في عالمنا الراهن- بما في ذلك عالمنا العربي- الذي افتقرت معظم سياساته إلى القيم الإنسانية، وأصبحت لا تعتد سوى بحسابات المصالح. والحقيقة أن مَشاهد المجازر المروعة في فلسطين قد كشفت عن أزمة حقيقية في الوعي، أو الضمير في العالم الغربي؛ فهنا نجد الغرب يواجه نفسه أمام مشاهد الإبادة التي لم يعد من الممكن إخفاؤها لترويج أو تبرير سردياته العنصرية إزاء الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية. إذ وجد ساسة الغرب -الذين اتخذوا مواقف معادية للمقاومة الفلسطينية ومؤيدة بالباطل للعدوان الإسرائيلي- أنفسهم في مواجهة حقيقية مع الذات التي أصبحت عارية عن كل قناع، أعني في مواجهة مع القيم الإنسانية العليا التي طالما دعوا إليها، وآمنوا بها باعتبارهم رموزًا لنظم تقوم على مبادئ العدالة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك. ولقد تعمقت أزمة الضمير هذه بوجه خاص بعد أن ثارت قطاعات واسعة من شعوب الدول الغربية على استمرار العدوان الصهيوني الوحشي على شعب فلسطين. ولكن هذا لم يؤد إلى تغيير حقيقي في مواقف السياسات الغربية إزاء استمرار العدوان الوحشي. حقًا إن هناك دولًا غربية عديدة قد أصبحت مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني والاعتراف بدولة فلسطين، ولكن هذا لم يغير شيئًا حقيقيًّا فيما يتعلق بالعدوان نفسه. وفي ذلك تكمن أزمة الضمير حينما يناقض ذاته، أو يصبح غير متسق مع ذاته؛ فلا يكفي أن تعلن ألمانيا أو بريطانيا إيقاف نوع معين من التسليح، أو إلغاء اتفاقيات معينة في مجال التسليح للكيان الصهيوني المحتل. ولا يكفي إدانة هذه الدول لعزم الكيان- في أثناء عدوانه واحتلاله- على إنشاء مستوطنات جديدة على الأراضي الفلسطينية؛ بحيث تفصل شمال الضفة عن جنوبها، حتى إن كانت هذه الإدانات تأتي مصحوبة بتعبير «بأشد العبارات» (كما يُقال عادةً) لسياسة الاستيطان، وتدعو إلى إيقاف هذا المشروع الاستيطاني. والحقيقة أن كلمات من قبيل: «الاستيطان» أو «المستوطنات» هي كلمات قد روَّج لها الاحتلال تزييفًا لحقيقة الأمور؛ فالاستيطان في الأصل يُطلق على قوم رُحَّل وجدوا أرضًا يسكنونها، أو يمكن أن تكون مستقرًا لهم. أما الصهاينة فقد أرادوا طرد سكان أرض فعليين وإبادتهم؛ لكي يسكنوها بدلًا منهم، وليس هذا باستيطان، بل هو استعمار وحشي، فلنسمِّ الأشياء بأسمائها.
وإذا كان هذا هو حال الغرب إزاء العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين عمومًا فإن هذا الحال لا يصدق على حال السياسة الأمريكية تحديدًا؛ فعلى الرغم من المظاهرات الواسعة لدى قطاعات واسعة من عموم الشعب الأمريكي ونخبته (وخاصةً لدى شباب الجامعات)؛ فإن السياسة الأمريكية في دعم إسرائيل تظل راسخة ومعلنة دون مواربة. والسلاح الأمريكي الذي تستخدمه إسرائيل يوميًّا لا يزال داعمًا بشكل متواصل في قتل الفلسطينيين، ولا نجد سوى تصريحات من ترامب وأعوانه بالقول: إننا نسعى إلى إنهاء الحرب، والتوصل إلى اتفاق! ولكن كل ذي فطنة يعلم بأن التوصل إلى اتفاق يظل مرهونًا بالتوصل إلى أقصى درجة من التنازلات التي تخدم مصالح أمريكا في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط.
خلاصة الأمر أن إنهاء هذا الاحتلال -الذي هو جزء من مشروع صهيوني معلن عما يُسمى بدولة إسرائيل الكبرى- هو احتلال لا يمكن إيقافه إلا من خلال المقاومة المتواصلة، ومن خلال مواقف حاسمة تتخذها الدول في مواجهة العدوان الإسرائيلي -خاصةً تلك الدول المؤثرة سياسيًّا، والدول العربية المَعنية، والعالم الإسلامي عمومًا- أعني مواقف تتجاوز «الشجب والإدانة بأشد العبارات» لهذا العدوان. وهذه المواقف الحاسمة تظل مواقف متدرجة يمكن أن تتبناها الدول، وذلك من قبيل قطع العلاقات التجارية، ثم قطع العلاقات الدبلوماسية تدريجيًّا، بدءًا بسحب سفراء هذه الدول في إسرائيل، ثم طرد السفراء الإسرائيليين، حتى توقيع العقوبات الرادعة على إسرائيل، ومنها تعليق المعاهدات، وإلغاء الاتفاقيات،...إلخ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون الذين يتوخون وجه الحق والعدالة.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة