المشروع الصهيوني العالمي هو حلم بجعل إسرائيل تتمدد في الجغرافيا العربية كما أوضحت الخريطة. وقد تحدث المتطرف نتنياهو خلال حواره مع إحدى القنوات الإسرائيلية عن وجود مسؤولية روحية، أي تلمودية في تنفيذ حلم إسرائيل الكبرى من خلال المشروع الصهيوني الذي خطط له منذ عقود؛ لتحقيق السيطرة على المنطقة ومقدراتها، وتغيير هويتها، ودمجها في مشروع «الشرق الأوسط الجديد». 

لم يكن التوقع كبيرًا في ردة الفعل العربية تجاه تصريحات نتنياهو؛ حيث إن الموقف العربي لا يزال متمسكا بالبيانات الرسمية، والشجب والإدانة. ورغم أن تلك المواقف العربية تعد في العرف الدبلوماسي مواقف ورسائل للكيان الصهيوني؛ إلا أنها لا ترقى إلى حجم تلك التصريحات الخطيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية. 

عندما نتحدث في مقالات عديدة حول الخطر الداهم على الأمن القومي العربي لا نرى ردود أفعال عربية على مستوى الحدث على اعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح للحلم الصهيوني أن يتحقق. وهذه مغالطة تاريخية؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الاستقلال هي الداعم الأساسي للكيان الصهيوني على الصعيد العسكري والاقتصادي والاستخباراتي وفي كل المجالات. بل إن نموذج العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية لم يجعلا إدارة بايدن السابقة، ولا إدارة ترامب الحالية يتحركان بموقف أو ضغط على نتنياهو لإيقاف الحرب الغاشمة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وعموم فلسطين. 

إن تصريحات نتنياهو جادة وليست مجرد حلم؛ فالمشروع ينفذ من خلال إستراتيجية زمنية بدأت باحتلال فلسطين وجزء من جنوب لبنان والجولان السوري، وهو يتمدد جغرافيا تجاه محافظة السويداء. وهناك المخطط الإسرائيلي الذي يتواصل في ظل غطاء أمريكي داعم، وضعف عربي كبير. 

الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية من الأخطاء الفادحة على صعيد الأمن القومي العربي، بل إن المطلوب وفق الظروف السياسية الحالية هو دعم تلك المقاومة؛ لأنها تعد خط الدفاع الأول لإفشال المخطط الإسرائيلي، وإيجاد مراجعة حقيقية للأمن القومي العربي المهدد بشكل مباشر، خصوصًا الدول العربية ذات التماس الجغرافي مع الكيان الصهيوني. 

المشروع الصهيوني حقيقي ويعمل عليه منذ زمن بن غوريون أول رئيس حكومة لإسرائيل عام 1948. كما أن علم الكيان الصهيوني الذي يتكون من اللونين الأزرق والأبيض يرمز إلى نهري النيل والفرات، فيما توجد خريطة المشروع الصهيوني على قاعة الكنيست الإسرائيلي. وعلى ضوء ذلك؛ فإن تصريحات نتنياهو تعبر عن حقيقة جوهرية، وليست مجرد أمنيات، بل هي مشروع توسعي قائم. 

الوضع العربي، وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد السياسي الدولي إلى حد كبير جعلا نتنياهو يتجرأ ويتحدث عن مسؤوليته التاريخية والروحية التلمودية، خاصة وأن التطرف في الحكومة الإسرائيلية وصل مرحلة خطيرة من خلال الدعوة إلى احتلال قطاع غزة والضفة الغربية، حتى تضيع كل فلسطين. وهنا لن يجد العرب ولا حتى المجتمع الدولي أرضًا للتفاوض حولها. 

هذا هو الهدف الإستراتيجي الذي تعمل عليه حكومة نتنياهو المتطرفة من خلال اتباع سياسة التجويع، واحتلال القطاع، وتهجير الشعب الفلسطيني، وهي مقدمة لتنفيذ مراحل المشروع الصهيوني. ولا تُعد أطماع الكيان الصهيوني في سيناء جديدة، كما أن الأردن مهدد هو الآخر بسياسات التهجير، ونظرية «الوطن البديل». ولعل ما يجعل جموح نتنياهو أكثر تطرفًا تطابق الفكر الصهيوني في إسرائيل مع إدارة ترامب التي لا تزال تصريحاتها موثقة إعلاميًا؛ حيث أشار ترامب في أحد تصريحاته إلى أن مساحة الكيان الصهيوني صغيرة جدًا، وهو ما يعطي الإيحاء بوجاهة التمدد الجغرافي الإسرائيلي. 

إذا كانت القيادات العربية لا تزال تؤمن بالقانون الدولي، وبقضايا حقوق الإنسان، وحماية المدنيين فلتتأمل نموذج قطاع غزة خلال عامين من الإبادة الجماعية وسياسة التجويع، واستخدام الإدارة الأمريكية السابقة والحالية حق النقض «الفيتو» ضد قرارات الشرعية الدولية؛ لوقف تلك الإبادة. 

موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة -خاصة من بعض الدول الغربية- رغم أهميته السياسية والمعنوية لن يغير من المشروع الصهيوني شيئًا. المؤشرات واضحة على أن إدارة ترامب سجلت انسجامًا سياسيًا يفوق أي إدارة أمريكية سابقة. أما قوانين الشرعية الدولية وقراراتها المتعددة فهي ترزح في أرشيف الأمم المتحدة منذ ثمانية عقود دون تنفيذ؛ لأن الإرادة السياسية الدولية مرتهنة لمصالح كبرى مع الولايات المتحدة. 

قد يجادل البعض بأن العالم لن يسمح للمشروع الصهيوني أن يتمدد جغرافيًا، وأن نتنياهو وحكومته المتطرفة ستختفي من المشهد السياسي؛ لأسباب انتخابية أو لنواميس الحياة، أي الموت. لكن الرد أن المشروع الصهيوني متواصل حتى مع اختفاء بن غوريون أو غيره؛ لأنه محفور في الذاكرة الصهيونية، وهو جزء أصيل من أبجديات «حكماء صهيون». وقد فصّل الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في مجلداته أبعاد هذا المشروع بالأدلة العلمية والتاريخية والتلمودية. 

أمام هذه المعضلة التاريخية، وأمام مصير مقدرات وآمال شعوب وأجيال؛ يبقى السؤال: هل نشهد صحوة عربية على الصعيدين الرسمي والمجتمعي في مواجهة الأطروحة التلمودية التي تحدث عنها نتنياهو، أم تمضي الأمور كما هو متوقع؟ 

إطلاق نتنياهو لتلك التصريحات لم يأتِ من فراغ، بل من واقع عربي متراجع وممزق لا يملك مشروعًا مضادًا، وهذا ما يجعل الأمر مفزعًا لأمة عربية تعيش إحدى أسوأ لحظاتها التاريخية. ولعل اعتراف نتنياهو الصريح بالخطة الصهيونية رغم أنها متجذرة منذ مؤتمر بازل عام 1897 جرس إنذار للأمن القومي العربي. 

فهل نشهد صحوة عربية تعيد بناء المشروع العربي الغائب، أم يتكرر الأنموذج الفلسطيني؛ حيث لا ينفع الندم بعد فوات الأوان؟ 

عوض بن سعيد باقوير صحفـي وكاتب سياسي وعضو مجلس الدولة