في الثانويّة العامّة كان لنا محور في مادّة العربيّة يختصّ بالتجربة الوجوديّة عند محمود المسعدي، ولم يكن لنا من الزاد الأدبيّ والفلسفيّ والنقديّ ما يجعلنا نفهم لغة المسعدي وفكره خاصّة في كتاب «السدّ»، فكانت دروسُ أستاذ جامعيّ اسمه توفيق بكّار تعيننا آنذاك، وتأخذنا من جمال لغة الإبداع إلى جمال لغة النقد، فكان جيلنا -ممّن سار في نهج القضاء أو علوم السياسة أو في المحاماة أو في اللّغات أو حتّى الطبّ والهندسة- لديهم ثابتان راسخان، وموروثان من تجربة الثانويّة العامّة، مُحفّزان على القراءة وعلى ولوج عالم الأدب، هما: محمود المسعدي (الكاتب التونسيّ الذي ظهرت أغلب أعماله في أواسط القرن العشرين)، وتوفيق بكار في النصّ على النصّ، أو الإبداع على الإبداع.
وتطوّرت معرفتي بالنقد من بعد ذلك عندما دخلت الجامعة، فوجدت تشريحًا ممجوجًا، وأعمالاً تخلو من الإبداع، ونقدًا باردًا يُفسِد ما يُمكن أي يتأتّى من لذّة النصّ، وإذا الشعر إيقاعٌ بليد قائم على موازين وتوازنات يعمل أستاذ المادّة على استخراجها وتفصيلها، وإذا الشعر صور بلاغيّة تحوي مجازات يُظهرها الأستاذ ويُفكّكها، وإذا الشعر تراكيب، ونحو وصرف، وأنا كاره بطبعي للنحو والصرف والعروض (ولعلّي إلى اليوم أكره كلّ هذا)، وإذا الشعر يفقد حلاوته وطلاوته، وإذا القصص يُسْلَب روح خياله، وإذا الأدب جداول، ومنطق، وأنا فارٌّ من المنطق، ومن العلم، ومن الجداول إلى فُسْحة الخيال (وقد كانت البنيويّة في ذاك الوقت دارجةً وشائعةً)، وقد صُدمت لذلك خاصّة بعد تجربة في الثانوي حملني فيها أساتذة أجلاّء على الاستمتاع بدرس الأدب، فقد درّسني في الثانوي شعراء في أوج عطائهم وكتّاب يستشعرون النصّ لذّةً ومتعةً قبل تشريحه وفضح مكوّناته. فمن حسن حظّي أنّ الثالوث الأدبي القيرواني المقدّس كان يُدرّس في معهدي الثانوي زمن دراستي فيه، الشاعران المنصف الوهايبي ومحمد الغزّي، والناثر صلاح الدين بوجاه، وكانوا ممّن يعتنون بمتعة النصّ، وممّن يجعلون الطلبة يعشقون الأدب، بخروجهم الظاهر عن الأنساق البيداغوجيّة التعليميّة القاتلة لروح الإبداع. التحقت بالجامعة تخصّص أدب عربيّ وفوجئتُ سنتي الأولى ببعضٍ من أستاذة الأدب والحضارة يقيمون مشانق للذّة النصّ، إضافةً إلى كرهي لمادّة اللّغة، فسقط ما أغواني به أستاذ الأجيال ورمز لذة النصّ الأستاذ توفيق بكّار، وعشتُ أزمةً أفضت إلى انقطاعي عن دروسٍ كنتُ أعلِّق عليها آمالاً عظامًا، وسأُضطَرُّ إلى انتظار مروري إلى السنة الثانية من التعليم الجامعي (ولم يكن الأمر يسيرًا بنسب نجاح لا تتعدّى العشرة بالمائة، وبامتحان شفويّ يلي الامتحان الكتابي، وله نفس وزنه، ويُحاسبك فيه الأستاذ أحيانًا على مدى سخريّتك من درسه، أو مدى التزامك بالإيمان بجليل علمه، ويُمكن أن يجعلك - وهو الأغلب- تعيد السنة بسقوطك في المحاورة الشفويّة) حتّى يُصبح درسُ الأدب ممتعًا، ودرس الحضارة نافعًا بظهور أساتذة مُرغّبين متفكّرين غير سطحيين ولا حَرْفيين؛ لأستوعب الصدمة، وأتقبَّل وجود أساتذة مبدعين، وآخرين محض معلّمين.
لم يكن الأدب بالنسبة إليّ دراسةً، ولم يكن من بعد ذلك مهنةً، وإنّما كان وجودًا وحياةً. كنتُ أحيَا مع التوحيدي كلّ بؤس حياته، ومع المتنبّي كلّ علوّه ونرجسيّته، ومع أبي نواس كلّ مجونه، ومع المعرّي كلّ أزمات وجوده ورؤيته للكون، وأقرأ الرواية فأراها عالمًا ليست تمثُّلا وتمثيلاً، وإنّما هي وجودٌ في ذاتها، وكم حوّلنا من شخصيّاتها إلى وجودنا العينيّ اليوميّ.
ولذلك انصدمتُ عندما حوّل أساتذتي شعر السيّاب إلى بنى وثنائيّات وموت وحياة؛ الشعر في ذهني أوَّلاً يُقرَأ، ثم نصمت من بعد ذلك. لم يقرأ أساتذتي القصيدة كما ينبغي أن تُقرأ جهرًا وحركةً وتفاعلا وإحساسًا، وإنّما وضعوها جسدًا مُسجَّى، وشرعوا في إعمال المقصّ والخيط والإبرة؛ شرعوا في التشريح وفتح الأمعاء. كم كان بئيسًا أن يُصبح درويش جدولاً وأرقامًا وصورًا، وموازنات، وبُنى منها الثّابت ومنها المتحرّك! كم كان بئيسًا أن يصبح النص السردي بنيةً وشكلاً! وماذا فعلنَا بالمعنى -السؤال الأساس دومًا هو ماذا أراد أن يقول؟ أمّا الكيف فهو الطريق لتأدية (لماذا)-؟ كان محمّد الخبو أمدَّ اللّه في أنفاسه من الكبار الجامع بين لذّة النصّ وصرامة المنهج. وكان يُدرِّسنا مناهج السّرد، وكُنّا نحبّه ونجلّ علمه. وعهد إليّ يوما -كما هو شأن مسار الدروس- بتحليل نصّ أظنّ أنّه مأخوذ من رواية «الأشجار واغتيال مرزوق»، وكان نصًّا جميلاً أخّاذًا. وكنّا ندرس منهج جيرار جونات في تحليل القصص، فأضربتُ عن منهج جونات، وعملت على تحليل النصّ كما رأيتُه دون أن أقفو الخطوات المنهجيّة التي أقرّها جونات في تعامله مع نصّ روائيّ لبروست وهو «في البحث عن الزمن الضائع». أكملت العرض الشفوي للتحليل بحضور الطلبة والأستاذ، وخلتُ أنّي فعلتُ ما يجب أن يكون. وكان تعليق الأستاذ درْسًا لم أنسَه حياتي. قال سي محمّد الخبو بهدوئه الدائم، وصوته الرصين الحنون، ولباقته المألوفة: «سي محمّد قدّمت عرْضًا جيّدا، ولكنّك خارج عن الموضوع تمامًا. أنصحك لوجه اللّه: تخصّص في أيِّ شيء إلاّ النقد اتركه لأصحابه، فلا يُمكن أن تكون ناقدا دون أن تلتزم بالمنهج». بطبيعة الحال؛ لم أنصت لنصيحة أستاذي الجليل وصديقي الدائم، وتركتُ كلّ شيء، وتخصّصت في الأدب ونقده. وما زلتُ حتى اليوم -بل اليوم أكثر وأشدّ- على يقين أنّ الأدب يُستلذُّ به؛ يُعَاشُ، ثمّ يُدرَسُ وفقًا لمقاييسه لا لمقاييس جاهزة.
أدركتُ اليوم أنّ أغلب المقاربات المنهجيّة وليدة أرضيّة أيديولوجيّة. وفي تلك الفترة التي تأزّم فيها درس الأدبي في تجربتي طالبًا في سنته الأولى ظفرتُ بكتابٍ خفّف من أثر بلادة الدروس، وبدّد صدمتي، وتساءلتُ: هل هذا نقدٌ أم إبداعٌ أم شيءٌ خارج عن الأكاديميا وهو في الآن ذاته في صلبها؟ قرأت كتاب عبد الفتاح كيليطو «الكتابة والتناسخ» في ترجمته الرائعة التي أدّاها أستاذ الفلسفة صاحب الهوى الأدبيّ سالم بنعبد العالي. في تلك الأزمة أيضا التقيتُ قدوتي النقديّة توفيق بكّر وعبد السلام بنعبد العالي في ندوةٍ أقيمت في كليّة الآداب بالقيروان عنوانها «الفلسفة والثورات». ومن عجيب ما صار في الندوة أنّ الطلبة -وأنا واحد منهم- كانوا في ثورة عارمة، فلم يقدروا على قطع ثورتهم، ولم يقدروا على مقاطعة أعمال الندوة، فكانت الفلسفة والثورات في المدرّج، والفلسفة والثورة خارج المدرّج.
تُعْجبني جدّا تجربتي طالبًا في التعليم العالي؛ فقد كان هروبي من حضور الدروس البليدة أو التي كنت أراها باردة ثقيلة دافعًا لي لألتهم كتبًا صنعتْني: جيل دولوز في الفلسفة، «يتيمة الدهر» في التراث العربيّ، روايات لا عدّ لها، كتبا في الحضارة الإسلاميّة، في التنازع المذهبي، في أصول الفقه، في صراع الخلافة، كتبا في الحضارة الحديثة، العرب والحداثة، العرب والآخر، هوسٌ بأعمالٍ جديدة كنّا نتنافس في اللّحاق بها واستعراضها في ساحات الجامعة، برهان غليون، الجابري، العروي، أمين معلوف. نقرأ من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار مسرحيّات، أشعارا، نشاهد أفلامًا، ونسمع الأغاني. تجربةٌ وجدتُ فيها الوقت الكافي لهجرة الدروس والإعراض عنها، ولتكوين أرضيّة معرفيّة ما زالت هي الأرض المخصبة التي لم تنضب.
في تلك الفترة، في زحمة التعرف على أرباب مناهج السرد -وهوايَ من البداية كان سرديًّا- سعدت باكتشاف عبد الفتّاح كيليطو. وأخذني كتابه «الكتابة والتناسخ»؛ لأنّه -في منظوري- قد نجح في الجمع بين النقد والحكاية؛ فهو يُقدّم نقده في هيئة حكاية خفيفًا لطيفًا جميلاً مبدعًا مُختزنًا لعلم جمّ، وممتصًّا للمناهج دون أن يُظهرها على السطح. أعادني كيليطو إلى الإيمان بالأستاذ الجامعيّ، إلى دروسٍ هجرتها، إلى كتابةٍ بدأت وقتها إعلانها ونشرها في نقد ما أقرأ من روايات.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي