مرت عليّ سنوات قضيتُ فيها أوقاتي الصعبة في مشاهدة مسلسلات التحقيق في الجرائم «الأوروبية» تحديدًا تلك التي تجري في قرى أو مدن صغيرة ومعزولة يعرف السكان فيها بعضهم البعض، فلا يمكن أن نشك بأي منهم كمرتكب للجريمة؛ ولهذا بالتحديد يختطفني هذا المسلسل بسرعة. في الحقيقة طورت مهارات عديدة في التعامل مع هذه الأعمال. أحيانًا تريد أن تحطم النمط، وأحيانًا تتحقق المفاجأة بتحقق النمط. عادة ما تكون هذه المسلسلات محدودة الحلقات. كما أنها تستند على قصص اجتماعية وعاطفية. لن أبالغ أنني في الأوقات القاسية عليّ عندما أريد بشدة أن أُخلف كل شيء في ركن الغرفة لبضعة ساعات – إذ إنني أشاهد هذه المسلسلات دفعة واحدة – شاهدتُ كل هذه المسلسلات في منصّات البث (Streaming Platforms) المتاحة في الشرق الأوسط، حتى إذا ما حدس أصدقائي بأنني مستغرقة في أداء عملي، وشاهد أحدهم إعلانا لواحدة منها فإنه عادة ما يرسل لي: «هنالك مسلسل جديد مكتوب بجانبه اسمك». وبهذا كله تم تنصيبي كسيدة منطقة comfort watch.
عندما أعود بالزمن إلى الوراء -خصوصًا مرحلة «الطفولة»- الفترة التي لا أحبها كثيرًا؛ بسبب من الشعور بالتقييد إن كنتُ سأعبر عنها بلطف. أعرف جيدًا أنني منذ ذلك الوقت أردتُ فقط أن أتمكن من اتخاذ كل القرارات، أو الفكاك منها -لا فرق في الواقع بينهما-. أما تنويعة «المشاهدات المريحة» حينها، ومع قلة الخيارات كانت محصورة بين خيارين فقط: الأول أن أتطلع إلى السقف، ولا شاعرية في هذه الإشارة ولا استعارة. كنتُ حقًا أحدق فيه ساعات قبل النوم في غرفتي مع أخواتي وفي الغرفة ضوء «السهارة»، وهو اسم لم نكن نستخدمه للـ«لمبة ملونة» نسميها «ليت النوم»، في رأسي الآن أنه كان أخضر أو أحمر. كانت تلك الدقائق معذبة؛ إذ لم يكن لدينا كل تلك الملهيات من هواتف وتطبيقات نقفز فيها من مقطع لآخر، ثم يصبح ذلك كل ما نتمناه، القدرة على القفز من علاقة لأخرى، من وظيفة لأخرى، من موقف لآخر؛ إذ إن صبرنا ينفد بسرعة. كان هذا هو الخيار الأول الذي كما هو واضح ليس خيارًا على الإطلاق.
الطريقة الثانية كانت ترقب أن يُبث فيلم مفضل في وقت ما، ولم يكن هنالك قائمة بمواعيد البث، أما الخطوة التي كانت مدهشة بالنسبة لي هي تقليعة أن يوضع في شريط قصير أعلى الشاشة اسم الفيلم الذي سيعرض تاليًا. أولعتُ ذلك الوقت بأفلام Chick flick وهي أفلام عاطفية غالبًا هي قصص مراهقين. مثل فيلم walk to remember الذي أنتج عام ٢٠٠٢ عن رواية أمريكية لـنيكولاس سباركس، أظن أن جيلي كله، وهذا ما لاحظته في كل مرة أشرتُ فيها للفيلم حالة من التأثر؛ لتهديد فقد الحبيبين لعلاقتهما بسبب السرطان، أو المرة التي حقق فيها الحبيب لمحبوبته التي تحتضر، ولم يغادرها لحظة حلمها بأن تكون في مكانين في الوقت نفسه. حينها أخذها لخط حدودي بين منطقتين وقفت على الخط بينهما، وانفجرنا بالبكاء على إمكانية تحقق الأحلام، واحتمالات الحب التي تنتظرنا في المستقبل.
انهالت بعد ذلك عشرات الأفلام. بعضها استخدم السرطان والأخرى أمراضًا أخرى تصبح فيها العلاقة عصية على الاستمرار لسبب قهري ما يعني أن الألم سيكون غير محتمل. كان هنالك أيضًا فيلم Twilight الحب المتعذر على الواقع؛ لأن الحبيب كان من طائفة «مصاصي الدماء»، أما هي فكانت إنسانة عادية، وهي بالضبط الطعام المفضل في الوضع النموذجي للحبيب، مع ذلك يبذل كل الجهد الذي لا يملكه لا لحمايتها من نفسه عبر التصدي لطبيعته فحسب، ولكن حمايتها من أعضاء طائفته الآخرين، الحب المستحيل مجددًا.
ما يهم الآن أنني تعجبت من هذه الأفلام إذا ما افتتحتْ بقائمة أمنيات البطل أو البطلة، وكنتُ أؤمن دون قرار مني أن تلك عادة لا تحدث إلا في الأفلام، في الموقع الذي يمكن فيها أن يعرف الإنسان أن هنالك يوم الغد، ثم الأسبوع القادم، والشهر القادم والسنة القادمة والعِقد القادم، وهو ما لم أستطع يومًا إدراكه في حياتي حتى هذه اللحظة. كان كافكا وبافيزي أيضًا يعانيان من هذا الأمر. لطالما كان لدي مشكلة مع الزمن والمسافة؛ لا يبدو بأنني أعرف ما هو البعيد والقريب. ومع وعينا بعجزنا هذا يصبح هذا هاجسًا ملحًا طوال الوقت. تكتب لويس غروس في كتابها «ما لايدرك»: من بين كثير من الكلمات الأخرى تتكرر في رسائل كافكا كلمة “قرب” كمحرّك أدبي. وقد تحدّث الكاتب عنه، وإن لم يعرّفه تعريفًا واضحاً. في سنة 1912 تكرّر المصطلح بإلحاح في عدّة رسائل إلى فيليسي. يظهر “القرب” المتحقّق عن طريق النضال، والقرب «الهنيء»، و«المجنون»، و«المفرط» كضرورة تبلُغ حدّ الاستماتة: “لا شيء يا حبيبتي سيمنعني من أن أجذبك نحوي أقرب، فأقرب، فأقرب”.
لكن لماذا أستعيد هذا الآن؟ حل تاريخ ميلادي قبل أيام. اعتادت أمي كتابة رسالة حميمة لي في هذا اليوم من كل عام، وعائلتي وأصدقائي يطلبون مني قائمة بالأشياء التي أريدها بدلاً من الحيرة فيما يناسبني من هدايا. هذه المرة لم أطلب شيئاً، بل طلبتُ من الجميع عدم دفعي للتعامل مع هذا. بعد ربع ساعة من تلقي الرسائل التي لم يُفد طلبي في ردعها كان أنس الشريف قد اغتيل من جيش الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني. والهدايا التي تركها إخوتي عند باب شقتي لم تُفتح أبدًا كما لو أنها بنت لحظة الحداد تلك التي لا يمكنني التعامل معها.
لا أتذكر متى آخر مرة شاهدتُ فيها شيئًا أهرب به من عقلي الصاخب، ومن جسدي، وأن أستسلم لقصة الحب الساذجة في الشاشة، أو للغز الجريمة الذي سيحل في النهاية الغموض الذي يمكنني التعامل معه، أو يمكننا جميعًا التعامل معه. هنالك لحظة واحدة لا يمكنني الخروج منها أبدًا. وعندما سألني أحدهم قبل أيام عن فيلمي المفضل على الإطلاق، وأنا -كما يعرف كثير منكم – أكتب عن السينما، وشاهدتُ أفلامًا من أماكن في العالم لم أعرف قبل ذلك بأنها موجودة، لكنني قلتُ دون تفكير «عالم ليس لنا» الذي أنتج ٢٠١٢ للمخرج مهدي فليفل، والذي تُعرفه ويكيبيديا في لحظة هذه الكتابة أنه فيلم مستوحى من قصة غسان كنفاني، لكنه ليس كذلك. إنه صورة ذلك المثال إن لم يكن المثال نفسه عن شاب فلسطيني لاجئ في مخيم لبناني. لا يخاف أبو إياد وفليفل في هذا الفيلم الوثائق البديع الدفاع عن فريقهما المفضلين في كأس العالم آنذاك. الضحك الكثير والبكاء الكثير الذي سينتهي إلى تهريب أبو إياد عبر البحر إلى اليونان في الرحلة هذه الرحلة المكلفة، ولِمَ؟ مغادرة حتى ذلك المكان البسيط من أجل أوروبا، لِمَ؟ من أجل وثيقة، ورقة، ورقة واحدة فحسب يصبح فيها موجوداً بالنسبة للعالم، ولا يهم إن خسر في رحلته تلك نفسه. وكدافع جانبي قد يتبخر جسد طفل هذا الهارب تحت قذيفة حديثة، وهذا ما سيجعل الغرق في رحلة التهريب ضرراً من المستوى الثاني.
كم يبدو معذباً للغاية أن أطلب من العالم أن تكون قصتي الخرافية Fairy Tail أن يتوقف هذا فوراً، أن نوقفه نحن، أن نسمي إسرائيل باسمها، وأن أستعيد نفسي كما يستعيد كثير منا ربما قدرته على الضياع في الخروج من جسده، وأفكر في هذه الأمنية وطابعها السلبي، والتي لا تريد ثورة ولا تحرر، بل منطقة صحراوية في غزة يزدحم فيها الملايين بلا أدنى مقومات للحياة. عندما سأفكر في الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ لن أشرد كثيراً قبل أن أعرف هل كان ذلك قريباً أم بعيداً؟ أسأل هذا السؤال لعشرات الآلاف من الشهداء والأيتام والأمهات الثكلى، ومكتبة صديقتي التي كتبت لكم عنها الأسبوع الماضي ولديهم كل الإجابة.
لآخرين قد تزيد القلق أو الكوابيس لو شاهدوا كثيرًا.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية