ترجمة: أحمد شافعي
التقيت للمرة الأولى بتامر المسحال رئيس فريق الجزيرة في غزة في شهر يوليو من العام الماضي. كان فريقه قد ودع بالفعل اثنين من الصحفيين هما حمزة الدحدوح، وسامر أبو دقة. وقال لي: إن البقية جياع. كما كانوا يتعاملون مع محاولة الحصول على معدات الوقاية، وتهديدات الجيش الإسرائيلي، وقتل أقارب لهم. ولم يكن إسماعيل الغول قد رأى زوجته وابنه منذ شهور فكان يفتقدهم افتقادا شديدا. أما حسام شبت، ومحمد قريقع، وأنس الشريف فكانوا يطلبون إمهالهم وقتا في الصباح؛ لتوفير الطعام قبل البدء في التغطية، وهم الآن موتى.
تكلمت مع العديد من أعضاء فريق غزة؛ لكتابة تقرير عن صحفي غزة المخضرم وائل الدحدوح الذي فقد زوجته وثلاثة من أولاده وحفيدا له. وتحدث الجميع عن العمل بوصفه واجبا لا بد من القيام به برغم الأخطار. ومنذ ذلك الحين لقي ثلاثة من الفريق مصرعهم في سلسلة اغتيالات. وكلما بعثت تعزية جاءني الرد يقول: إن التغطية لن تتوقف. وقال لي محرر غزة في الأسبوع الماضي: «إننا مستمرون»، وذلك بعد أن فقد جميع أعضاء فريقه في غزة من جراء ضربة مقصودة أجهزت على حياة أنس الشريف، ومحمد نوفل، وإبراهيم طاهر، ومحمد قريقع. قال: «لن نخون رسالة زملائنا، ولا آخر أمنياتهم».
فيما أصابت عمليات القتل هذه ذهول العالم ـ وأحيطت الردود عليها بمزاعم متهافتة ومضحكة في بعض الأحيان بأن أولئك الصحفيين مقاتلون ـ؛ لم نسمع الكثير يقال عن الصحافة في غزة. عن مدى طلاقة ودقة ورزانة صحفيي غزة في ظل ظروف مستحيلة. وكيف يتسنى لهم اقتناص الأحداث والآلام المريعة كل يوم في لغة عربية صحفية أتقنوها، ووصلوا بها إلى مصاف الفن مع محافظتهم على حرفية الحضورن ورصانته أمام الكاميرا؟ وكم يتسنى لهم الحفاظ على ثباتهم؟ لطالما شقَّ عليَّ أن أترجم كلماتهم إلى الإنجليزية؛ لمدى ثراء تعبيرها، واتساع نطاقه. بل إن رسالة أنس الشريف الأخيرة، وهي نص سيعيش لأزمنة قادمة تفقد بعض قوتها بالترجمة، وهو يوجه فيها خطابه إلى من «يكتمون» أنفاسنا، ولكن الكلمة التي يستعملها قريبة المعنى من «الحصار»، ولا تثير في الذهن الخنق الفيزيقي وحده، وإنما الإخراس لصوت شعب خاضع للمراقبة.
ما يبهتني حينما أتكلم مع الصحفيين في غزة أو منها هو مدى ما هم عليه من مثالية تفطر القلب، وإحساس بالرسالة، وكم تمثل الصحافة لهم واجبا حتى لو أن ثمنه هو الموت. وكل الذين لقوا مصرعهم كان أمامهم خيار، وكل الذين لا يزالون أحياء ويقومون بالتغطية لديهم خيار. وقد قال أنس الشريف: إنه تلقى تهديدات عدة من السلطات الإسرائيلية على مدى العامين المنصرمين. وأخبرتني الجزيرة أنه تلقى تحذيرا من المخابرات الإسرائيلية، وطولب بالتوقف عن التغطية. ولما رفض تعرض والده للقتل في غارة جوية. ولما حل الغول محل الدحدوح في العام الماضي قال له الدحدوح: إنها وظيفة خطرة، ولن يلومه أحد لو تركها ورجع إلى زوجته وابنه. لكن الغول رفض، فأطيح برأسه في ضربة مقصودة.
ما تحاول الحكومة الإسرائيلية عمله بهذا القتل لا يقتصر على إيقاف تيار التقارير والصور الكريهة، وإنما القضاء على صورة الفلسطينيين نفسها التي ينقلها أولئك الصحفيون، والقضاء على المصداقية والكرامة والموهبة التي تتجسد في أولئك الصحفيين، فتتضح للعالم في تقاريرهم ومنشوراتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فكلما أصبحت غزة مكانا يغص بالمقاتلين، ويخلو من الرواة الأمناء، ولا تجد فيه مبررات إسرائيل للقتل والتجويع من يفندها بشهادات منطقية سهل على إسرائيل أن تواصل حملة إبادتها الجماعية.
لقد تبين لتحقيق أخير أجرته «مجلة +972» و«لوكال كول» وجود وحدة آثمة تعرف بـ«خلية إضفاء الشرعية»، وهي وحدة في الجيش الإسرائيلي مكلفة ـ على حد تعبير التحقيق ـ «برسم هوية للصحفيين المقيمين في غزة، وتصويرهم بأنهم عناصر متسترة في حماس في محاولة لتهدئة الغضب العالمي المتزايد على قتل إسرائيل للصحفيين». ووفقا لمصادر التحقيق؛ فإن دافع هذه الجهود هو «الغضب من قيام الصحفيين المقيمين في غزة بتغطيتهم التي تلوث اسم إسرائيل أمام العالم.
ومن أسس هذا الجهد أن إسرائيل قادرة على الاعتماد على أن يتعامل الإعلام الغربي مع مزاعمها باعتبارها منطقية بطريقة ما برغم أنها تطرح مزاعم يتبين المرة تلو المرة أنها غير صحيحة. فعمال الطوارئ الذين لقوا مصرعم لأنهم كانوا «يتحركون بصورة مريبة» بحسب زعم الجيش الإسرائيلي قيل: إنه عثر عليهم مقيدين، وإن الطلقات التي تعرضوا لها تشبه طلقات الإعدام. أما الزعم بأن حماس دأبت على سرقة المساعدات ـ وكان ذلك الزعم هو مبرر المحاصرة والتجويع ـ فكذبته مصادر في الجيش الإسرائيلي نفسه. فضلا عن قول إسرائيل: إن حماس هي التي تطلق النار على الفلسطينيين المصطفين للحصول على المساعدات وليس إسرائيل.
في نهاية المطاف جدير هذا السلوك بأن يوصف بما يفيه حقه: أي أنه خداع منهجي يسلب من يلجأ إليه الحق في أن يعد سلطة موثوقا فيها. ولا يزال يقال لنا: إن إسرائيل قتلت صحفيا، ثم تزعم إسرائيل أنه مقاتل. ويبقى عليكم أنتم أن تحسموا الأمر. والغموض الناجم عن هذا يعني أنه حتى لو لم يتسن إثبات الادعاء فإنه يبقى حقيقة محتملة؛ فهل ترون كيف يمضي الأمر؟
الحقيقة هي أن الصحفيين في غزة قوبلوا بخذلان هائل من زملائهم في الإعلام الغربي، وليس ذلك فقط بسبب طريقة عرض أخبار مصرعهم، وإنما بسبب الطريقة التي يوصف بها الصراع كله. فالأرقام التي تشير إلى الموتى والجياع في غزة كثيرا ما توصف بالواردة من وزارات «تديرها حماس»، ثم لا نرى التصريحات الواردة من السلطات الإسرائيلية توصف بأنه لا يمكن الاعتماد عليها، ولا نرى عبارة «المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية» لصيقة باسم بنيامين نتنياهو. في الوقت نفسه لا تعد كلمة الصحفيين الفلسطينيين كافية أبدا، فلا بد للإعلام الأجنبي (غير المسموح له بدخول غزة) من إصدار الحكم المعياري الأخير عليها، فهم محذوفون من كيان الصحافة، والحقيقة التي ينقلونها تدفن بدفنهم.
غير أنه سوف يبقى في غزة دائما من يتحلون بالشجاعة ووضوح الرؤية، فيستمرون في التغطية من يرتدون سترات الصحفيين الواقية، فتجعلهم أهدافا مقصودة من يستمرون منفردين في حمل مسئولية تقديم واقع أحداث غزة للعالم، حتى لو حوصرت أصواتهم، وكتمت أنفاسهم.
نسرين مالك من كتاب الأعمدة في ذي جارديان