د. إسحاق بن يحيى الشعيلي -
لم يكن يعلم الطفل أحمد وهو يصحب جده إلى شاطئ البحر حاملا معه شغف المعرفة والاستماع إلى تجارب النواخذة الذين يسامرون جده محمد عن مغامراتهم في البحر ورحلاتهم بين الأقاليم - لم يكن يعلم ذلك الطفل أن اسمه سوف يخلد بين العظماء ممن ركبوا البحر، وخاضوا غماره فألف في علم البحار ما لم يعرفه أحد من قبله وكتب الأراجيز الشعرية التي أصبحت دليلًا لكل بحار سلك الدروب إلى شرق إفريقيا وسواحلها أو أشرع بركابه إلى الهند وما جاورها من الجزر والبلدان.
ولد أسد البحار شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد بن عمرو بن فضل السعدي العماني لعائلة معروفة بالعلم مشهورة بالريادة في مسالك الطرق البحرية، فيُذكر عن والده أنه كان يلقّب عند ربابنة البحر الأحمر «ربان البرين» أي الساحلين العربي والإفريقي للبحر الأحمر. ورغم نظمه لأرجوزته المشهورة «الحجازية» التي تجاوزت (ألف بيت) إلا أنه يختمها بقوله:
قد فرغ القرطاس والمداد
وما بلغت العشر من أعدادي
فورث ابن ماجد هذا العلم وتفرس فيه منذ صغره وأضاف عما ورثه من أبيه وجده فيذكر عن نفسه في قصيدته المشهورة «كنز المعالمة وذخيرتهم في علم المجهولات في البحر والنجوم»:
وَكَم نظرتُ في الحسابِ العربي ... وَحِسْبَةٍ للهندِ مُذْ كُنْتُ صَبِيّ 1
ورغم أنه لم يرد في كتب التاريخ تاريخ ولادته إلا أن المؤرخ حسن صالح شهاب يشير في تحقيقه لمخطوط النونية الكبرى مع ست قصائد إلى أن ولادته كانت في العقد الخامس من القرن التاسع الهجري مستندًا في ذلك إلى أن ابن ماجد انتهى من نظم أرجوزة «الحاوية» وهو في أول الشباب «فمن المعلوم أن أول الشباب لا يتجاوز فترته الخامسة والعشرين من السنين»2، والثابت عند جميع المؤرخين أنه كان ذكيًا ذا فطنة ومعرفة وليس بغريب عن البحار، فهو سليل عائلة عرفت البحر أبًا عن جد، فترك ابن ماجد الكثير من المؤلفات والأراجيز الشعرية منها:
الفوائد في علم البحر والقواعد وهو النثر الوحيد الذي وصل لنا من كتب ابن ماجد أما ما عداه فهو عبارة عن أراجيز. كالنونية الكبرى أو قصيدة الخيل، وحاوية الاختصار في أصول علم البحار والقصيدة الذهبية وقصيدة بر العرب وغيرها من القصائد والأراجيز التي لا يسع المجال لذكرها، لكن ما يجب الإشارة له هنا أن الأراجيز الشعرية هي النمط الشائع عند ربابنة البحر لتخليد معارفهم ونقل تجاربهم وذلك لسهولة حفظها عند عامة الناس ولأهل البحر من بعدهم، إذ لم يصل لنا من الكتب النثرية لابن ماجد إلا ما أشرنا إليه سابقا وربما تكون هناك مؤلفات أخرى لم تصل إلينا إما لفقدها أو لعدم الوصول إلى المخطوط ليوم الناس هذا، ويمكن إجمال القول: إن غزارة علم أحمد بن ماجد وتعمقه دون غيره من ربابنة البحر في ما كتب السابقون من معارف فأظهر ما فيها من البيان ونقح ما فيها من أخطاء وزاد عليها من ما جربه وعايشه خلال ترحاله بين الموانئ جعلت من المستحيل على من بعده اللحاق بركبه في هذا العلم وهو القائل في أرجوزة كنز المعالمة:
إذ ليس يقدر غيري أن يرتبها
فكل من دوني في البحر مجهولُ
عرفت أودية المجهول تجربة
ولا تغلّق باب دوني مقفولُ
حصرت أصل نجوم الأفق عن كملٍ استغفر الله مما قال المهابيلُ
يا حاسدي استمدوا من عيوبكم وهاكم من شهاب العلم تأويلُ
وفي هذا المقال نناقش الأثر الفلكي والإرث المعرفي والأهمية التاريخية للنونية الكبرى لأحمد بن ماجد السعدي التي تم توثيقها مؤخرا ضمن ذاكرة العالم التابع لمنظمة اليونسكو.
النونية الكبرى
تعتبر النونية الكبرى واحدة من أهم الأراجيز الشعرية للملاح العماني أحمد بن ماجد التي ضمن فيها خبراته العلمية التي اكتسبها من تجاربه في البحر:
من بندر شاع اسمه بين الملا
هي مسقط المعمور من عماني
خذ درة نـــفــيســــة من ثــقـة حقا لها تعلو على التيـــجــــاني
قد عجز الماضون من إدراكها واحتجبت عن ابن كـــامــــلاني
فهي كما يراها ناظمها أنها درر حوت من العلوم ما احتجب عن من كان قبله، غير أن ما نريد إبرازه في هذا المقال هو الإرث الفلكي الذي حوته هذه القصيدة. فذكر النجوم لتحديد الاتجاهات ومعرفة الطرق هو أمر شائع في هذه القصيدة كغيرها من الأراجيز،
لكن ما أضافه ابن ماجد في النونية هو أنه وجد من كان قبله ومن في عصره من الجغرافيين قد قسموا الأقاليم إلى سبعة تقع كلها شمال خط الاستواء وإلى دائرة القطب الشمالي، فجعل ابن ماجد سبعة مشابهة لها في الجنوب، وجعل من مسقط بداية لقياساته حينما يكون نجم الجاه (والجاه هو نجم الجدي ويعرف بنجم الشمال أيضا يُستدل به لاتجاه الشمال الجغرافي) على ارتفاع 12 إصبعا:
في البر والبحر بالأربعة عشر الأقاليم عند العارف الحقاني
لإني اختــــرعت شي نـــفــعه على الطريق دايم الغشياني
أطلق به من جاه اثنا عشر أصبع واجر على اسم الله في الهيراني
فهي لم تكن معروفة للبحارة الذين عاصروه ومن عاشوا قبله. إضافة إلى ذلك، فإن حساب المطالع النجمية في النونية الكبرى لقياس خط العرض ليلًا تجعل من القيمة العلمية لهذه الأرجوزة مرجعًا دقيقًا جمع بين النظرية والتطبيق فلم يعتمد أحمد بن ماجد على رواية من كان قبله أو من عاصره، بل جعل من التجربة والحساب والتثبت منهاجًا له حتى يطمئن لصدق ما جرب فينقله بعد ذلك في مؤلفاته، فالوصف في الأبيات يبين أن توقيت الإبحار وموقع الوصف مرتبط برصد السماء لا بالعشوائية، لذلك فإن موقع النعوش والتي يشير إليها ابن ماجد في نونيته من النجوم التي يجب على ربان السفينة معرفتها ومعرفة مواقعها واختلاف هذه المواقع في الليلة الواحدة وحتى اختلاف ذلك مع اختلاف فصول السنة لتحديد مكانه ومعرفة الاتجاه الذي يجب عليه أن يسلكه بين الموانئ المختلفة إضافة إلى نجوم أخرى والنعوش أو بنات نعش في الموروث الشعبي هي النجوم المكونة لكوكبة الدب الأكبر وهي عبارة عن أربعة نجوم تمثل النعش (الفخذة والمراق والدبة والمغرز) وثلاثة نجوم تمثل البنات (القائد والإلية والمئزر أو السها)، كما نلاحظ الإشارة بشكل واسع إلى نجوم الفرغان وهما نجمان في كوكبة التوأمين (رأس التوأم المقدم والمعروف علميا بألفا التوأمين ورأس التوأم المؤخر أو بيتا التوأمين).
وتتجلى دقة الوصف للوصول إلى الموانئ ذروتها حين يصف ابن ماجد الوصول إلى ساحل كاليكوت أو كما يسميها بندر كاليكوت (وكلمة بندر هي فارسية الأصل وتشير إلى الميناء أو المدينة الساحلية أو المدينة الكبيرة وهي شائعة الاستخدام عند أهل البر والبحر على السواء) فليس يذكر فقط الدليل إلى المكان بل يحذر من خطر الشعاب المرجانية المحيطة بالمكان في حال الوصول اليها ليلا لذلك جعل من خن الأكيل أو طالع الإكليل في كوكبة العقرب علامة للاهتداء بمقدار زام واحد أو ما يعادل ثلاث ساعات خوفا من الاقتراب من الشعاب فيقول:
والزم الاكيل زاما واقترب
خوفا بان تسقط على فناني
على أن ابن ماجد في هذه الأرجوزة فصّل الطريق من مسقط كنقطة للانطلاق إلى الهند وحدد موانئها بالاعتماد على مطالع النجوم أو ما يعرف عند أهل البحر بالأخنان، فقسمها إلى أربعة أخنان تختلف باختلاف الجهة التي يطلبها المسافر فمن يطلب الساحل الجنوبي للهند على سبيل المثال فعليه أن يسلك خن الإكليل أو مطلع الإكليل سابق الذكر وهناك أيضا خن النير، ويشار له غالبا بنجم سهيل، وخن مطلع الجوزاء (برج الجوزاء) وخن الطائر (من ألمع نجوم السماء يقع في كوكبة النسر) وبذلك جعل المسالك إلى الهند واضحة المعالم عند تحديد المكان.
ومن دلالات دقة القياسات في هذه المنظومة حساب ارتفاع الجاه بحيث يراعى عند القياس الاختلاف في الارتفاع بين ليلة وأخرى بسبب دوران الأرض ويتم ضبط ذلك من خلال (شاهد القياس) وهو نجم يضبط بقياسه نجم آخر فمثلا يذكر من الشواهد على نجم الجاه عند اثني عشر إصبعا نجوم الجاه والفرغ والسماك الأعزل، فلو قاس ارتفاع الجاه في يوم عند هذا الارتفاع فإنه لا يقيسه بنفسه، بل يقيس الشاهد من النجوم لتكون الحسبة دقيقة وتخلو من الأخطاء التي قد تكلف ربان السفينة الكثير. ولابد لمن يركب البحر معرفة مواسم الرياح واتجاهاتها وأنسب المواسم للسفر، فضربات البحر المعروفة يجب تجنب خوض البحر فيها وخاصة تلك التي يكون تأثيرها كبيرًا جدًا، فضربة الشلي على سبيل المثال تخلف الكثير من الدمار؛ نظرا لقوتها وسرعة الرياح وعلو الأمواج فيها، وقد حدد أحمد بن ماجد توقيتها في الخمسين من النيروز:
وموسم الشلي للنيروز في
خمسين فأسال سائر الإخواني
والنيروز حسبة معروفة لدى البحارة العمانيين وتبدأ على أغلب الحساب في شهر أغسطس أو فلكيا بطلوع نوء النثرة أو كما يسميها البعض الكليبين وهي من منازل الصيف، وحسبة النيروز تقوم على حساب الدر أو الحساب العشري بحيث لا يتم حساب شهور كما هو معمول به في التقويم الشمسي، بل تعتمد على الحساب العشري أو در العشر ثم العشرين وهكذا حتى يكتمل العدد 365 يوما .
يبقى هنا أن نشير إلى أن الطرق من مسقط خاصة والموانئ العمانية عامة والتي فصلها ابن ماجد في هذه القصيدة رسُمت وحُددت بواسطة مطالع النجوم وقياساتها بما لم يدع مجالا للنقد فيها أو التشكيك في دقة قياساتها، كما أنها ركزت على المسارات الليلية أما في النهار فالأجهزة التي وصفها أسد البحار وأسهب في شرحها في أراجيزه المختلفة فهي المستخدمة من قبل البحارة، فهذه القصيدة هي كما يشير في آخر الأبيات تغني لمن فهم معناها وأدرك ما بها من المعاني عن بقية المصادر:
كررت هذا كله بقــصــيــدة
شهدت بها في النتخة الشباني
كملت معانيها وصح قياسها وتفردت بالحسن والإحساني
لقد ترك أحمد بن ماجد إرثا حضاريا وفلسفة عميقة في طلب العلم والمثابرة عليه وحفظه، وتمحيص ما صدق منه بالتجريب لا بالنقل فقط والأخذ عمن سبق دون تبيان لصدق ما نقل، فأسس بذلك منهجًا مختلفًا خلد اسمه في كتب التاريخ، فهو يرى كما يذكر في كتابه «الفوائد في علم البحر والقواعد» أن معرفة المنازل والاخنان والدير والمسافات والباشيات والقياسات والإشارات وحلول الشمس والقمر والأرياح ومواسم البحر هي من أهم الأسباب لنزول البحر، وكما نلاحظ أن علم الفلك ومعرفة النجوم ومسارها في السماء واختلاف ارتفاعها باختلاف المكان والزمان الذي عليه الراصد من أهم الأسس التي يجب لمن يركب البحر معرفتها والتمرس فيها لتحيد موقعه ومعرفة اتجاهه، على أن ذلك لا يكتمل إلا بمعرفة الصبر من التواني، والتفريق بين الحركة والعجلة، وينبغي أن يكون عارفا عالما بالأشياء عزاما فتاكا لين الكلام في قوله، عادلا تقيا لا يظلم الناس مقيما على طاعة ربه، كما يشرح ذلك في آخر الفائدة الثانية من كتاب الفوائد.
ونجمل القول إن النونية الكبرى لابن ماجد لخصت التكامل بين النظرية والتطبيق والاستدلال التجريبي فأصبحت مرجعا لكل من جاء بعده، فهي موسوعة علمية ذات معان عميقة وقياسات دقيقة، يحق له أن يختمها بقوله:
لي في العلو كالنجم فوق حواسدي وعلوهم في الفضل كالدخاني
يا أحمد السعدي عش طول المدى فعلى حياتك هذه عنــوانـــــي
د. إسحاق بن يحيى الشعيلي رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للفلك والفضاء