المعتصم الريامي -

أحكي لك عن قصة حقيقية، لشابٍ عربيٍ هنا في سلطنة عُمان، كان يرى التجارة والتداول في سوق العملات الرقمية فرصةً لتوفير دخلٍ ماديٍ جانبي يساعده وعائلته. كان يضع كل مدخراته في منصة تداولٍ شهيرة، ويتابع بشكل يومي تقلبات السوق؛ ليتنبأ باتجاه السوق ويقتنص الفرص، وقد حقق -فعلًا- ربحًا من وراء ذلك، وحين قرر سحب أرباحه، تمّت كل الأمور بسلاسة، و-فعلًا- تم تحويل الأرباح لحسابه عن طريق حسابٍ بنكي عماني آخر، إلى هنا كل شيءٍ طبيعي، إلى أن يأتيه اتصال من جهة أمنية ويجد حياته قد تعقدت وأخذت منحى لم يكن في الحسبان. فقد وجد نفسه أمام شكوى رسمية من امرأة تسكن ولاية بعيدة، تدّعي أنه قام بالنصب عليها وبعدما حولّت له أموالًا، لم يف هو بالمقابل بتحويل المبلغ كامل إلى منصة التداول، بموجب عملية تداول -بيع وشراء- في منصة تداولٍ للعملات الرقمية. مرت أشهر طويلة وهو متّهم، ويراجع الجهات المختصة ليقنعهم -بشتى الطرق- أنه لم يقم بذلك، وأنه قد حوّل المبلغ في المنصة حسب الاتفاق، وأنه ليس لصًا، إلى أن اكتشفوا بعد التدقيق والتحقيق الجنائي والتقني أن هناك طرفًا ثالثًا دخل بينهما وقام بعملية الاحتيال تلك، بدون علم الطرفين، هذه القصة مجرد نموذج بسيط للفوضى في عالم العملات الرقمية المليء بالفرص الكبيرة وبالمخاطر العالية كذلك.

قصة أخرى، لشابٍ آخر، استثمر في العملات الرقمية في وقتٍ مثالي وحقق أرباحا جيدة، فاقت توقعاته. لكنه، حين حان وقت جني الأرباح تردد وطَمَع، وذلك لأن أحد الحسابات الشهيرة، ممن يصفون أنفسهم بعبارات مثل مستشار مالي أو خبير اقتصادي أو محلل أسواقٍ معتمد، كان قد أعطاهُ -وغيره- وعدًا بالمزيد من الربح السريع المضمون، وما عليه سوى اتباع نصحه وتوصياته والاستثمار في عملة رقمية محددة بعينها، يزعمُ أنه يعرفها جيدا، وأن لها مستقبلًا مضمونًا جدًا وفرصة ربحٍ سريعة، هكذا حتى وجد نفسه -بعد أسابيع- وقد خسر ليس كل ما ربح فحسب، بل وجُلّ رأسماله أيضا، حينما انهارت تلك العملة وقارب سعرها أن يكون صفرًا، ليتبين أنها عملة مزيفة، ويختفي الخبير وتوصياته.

هذه القصص، رغم تباين نتائجها، تسلط الضوء على مخاطر حقيقية في تجارب المستثمرين في هذا السوق. هذه المخاطر ليست مجرد صدفة، أو حظًا سيئًَا يقع فيه البعض، بل إنها تعكس الطبيعة غير المنظمة لهذا الفضاء المالي التقني المستجد نوعا ما، خاصة لأولئك الذين يفتقرون للمعرفة أو الخبرة الكافية في عالم العملات الرقمية، والتداول والاستثمار المالي بشكل عام.

سوق العملات الرقمية -هذا- يعتبر جديدا، مقارنةً بأسواق المال الأخرى، والتي يرجع تاريخ بعضها إلى قرون طويلة، ففي القرن الرابع عشر الميلادي، كان تُجار البندقية يبيعون إصدارات الديون الحكومية للمستثمرين، وفي 17 مايو 1792، وقّع 24 سمساراً اتفاقية لتأسيس بورصة نيويورك، لتصبح لاحقاً واحدة من أكبر البورصات العالمية حتى اليوم.

في هذه الأسواق التقليدية الكبرى، تضع الكثير من الدول والمؤسسات (كالشركات الاستثمارية والبنوك المركزية) تريليونات من أموالها. على سبيل المثال، سوق العملات الأجنبية (الفوركس) -وحده- يُعدّ أكبر سوقٍ مالي، بمتوسط تداول يومي يبلغ 6 تريليونات دولار، حجم السيولة الهائلة هذه، والتاريخ الكبير، نتج عنه الكثير من الدراسات والتشريعات والرقابة الصارمة. كلها تحدّ من قدرة الأفراد أو المؤسسات الصغيرة على إحداث تأثير كبير أو تلاعب بهذا السوق، على عكس سوق العملات الرقمية.

حيث إن سوق العملات الرقمية بدأ قبل 15 عامًا فقط، وهو عمرٌ قصير جداً مقارنة بالأسواق التقليدية. وقد بدأ بعد أن نُشرت ورقةٌ بحثيةٌ بسيطةٌ، من تسع صفحات، أسست لسوق ماليٍ جديدٍ كلياً، وبدأ استخدام البيتكوين كعملة في عام 2009 كنتيجة لتلك الورقة.

هذا السوق يعتمد على تقنيات جديدة لم يسبق للعالم تجربتها، أبرزها تقنية البلوك تشين (سلسلة الكتل) التي توفر سجلاً مشفراً للتعاملات، مما يضمن الشفافية والأمان واللامركزية. وهنا تقع الميزة والخطر، أنها غير مركزية، أي أنه لا توجد أي جهة أو مؤسسة أو دولة تنظمها.

وقد نما هذا السوق بشكل مثير للدهشة من ذلك الوقت. فعلى سبيل التقريب، في عام 2010 قام أحد مستثمري البيتكوين بشراء بيتزا باستخدام البيتكوين، حيث اشترى وجبتي بيتزا بعشرة آلاف بيتكوين، بالتأكيد لم يكن يعلم أن ما دفعه آنذاك يعادل اليوم ما قيمته أكثر من مليار دولار، وكانت تلك ربما أغلى وجبة بيتزا في التاريخ، لدرجة أنها أصبحت ذكرى يتم الاحتفاء بها سنويا في مجتمعات المستثمرين والمهتمين!

سوق العملات الرقمية، نما بشكل أسرع بكثير من قدرة التنظيم على اللحاق به، إضافة إلى عدم مركزيته، مما يفسر -جزئيا- الفوضى ونقص الحماية فيه. فالتقنيات الأساسية للعملات الرقمية مثل البلوك تشين واللامركزية هي نقطة قوتها، حيث تقلل الرسوم وتعزز الخصوصية، لكنها أيضا مصدر ضعفها التنظيمي. فغياب السلطة المركزية يجعل من الصعب تطبيق القوانين التقليدية ومحاسبة المحتالين ومكافحة غسيل الأموال أو التحقق من هوية المتعاملين. هذا يفسر لماذا أصبحت بيئةً خصبةً للاحتيال والأنشطة غير المشروعة.

الاحتيال والتلاعب في هذا السوق يبدأ من المؤسسات ومنصات التداول ولا ينتهي عند المحللين الوهميين والشركات المخادعة، كلٌ يبحث عن نصيبه من الكعكة.

إيلون ماسك على سبيل المثال، وهو من أثرى رجال العالم، قام -أكثر من مرة- بنشر تغريدات أو تغيير صورته في ملفه التعريفي في منصته أكس -تويتر سابقا- وذلك ليتلاعب بالسوق، فحين يضع اسم العملة الرقمية أو صورتها، يهرع الناس لشرائها بسرعة، مما يرفع سعرها، لـ500% خلال ساعة واحدة في بعض الأحيان بل وأكثر من ذلك أحيانا أخرى، كما ارتبط اسمه بعملة «دوج كوين» التي شهدت ارتفاعا كبيرا ومن ثم تقلبات هائلة، بسبب ما ينشر إيلون ماسك فقط، بينما حين أثرت بعض تغريداته على سهم شركته تيسلا، تمت محاكمته ومعاقبته على ما فعل، على عكس تلاعبه بسوق العملات الرقمية الذي بقي بلا حسيب، هذه الممارسات توضح مدى ضعف الأصول المشفرة والعملات الرقمية أمام التلاعب بالأسعار، حيث يمكن لشخصية واحدة أن تُحدث تحولات جذرية في القيمة السوقية، هذا لا يمثل مجرد تأثير بسيط في السوق، بل هو مؤشرٌ صارخٌ على عدم نضج السوق وسهولة التلاعب به.

لا يقتصر الأمر على المشاهير التقنيين. فمثلا، دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الحالي، أطلق عملة رقمية خاصة به تسمى «ترامب $TRUMP» وحقق منها عشرات الملايين من الدولارات، له ولشركائه. وقد أدّت تصريحاته وتصرفاته إلى ارتفاع قيمة هذه العملة، وقد وصلت قيمة ممتلكاته منها إلى أكثر من 20 مليار دولار. وهذه العملة التي أطلقها وعملة إيلون ماسك «دوج كوين»، وغيرها من العملات المشابهة، هي من العملات التي لا تستند على مشروعٍ حقيقيٍ قائمٍ على أرض الواقع، يربح ويخسر بناء على أداء لشركة أو قيمة لمنتج أو معدن حقيقي، فليس لها ما يقابل قيمتها أصولا أو معدن أو أي شيء، بل هي ما يسمى بعملات الميمز، التي تم تأسيسها على سبيل التسلية -والتلاعب-، حيث إن مؤسسيها يبرمجونها من العدم، ويحددون لها سعرا مبدئيا ويضعون أموالهم بها، ومن ثم يضخّمون سعرها بالتسويق المبالغ فيه أمام الجمهور، والوعود بأرباح خيالية، وحين يرتفع سعرها فعلا من جراء إقبال الناس عليها يقومون بسحب كل أموالهم التي تضاعفت، فيما يطلق عليه بعملية الضخ والتفريغ (Pump and Dump)، حيث يتم ضخ الأموال بشكل كبير، ثم يتم تضخيم قيمة الأصل للعملة بشكل مصطنع غير حقيقي، ثم يتم بيع العملة لتحقيق أرباحٍ سريعة، لتعود العملة بسعرها الطبيعي بعدما استفاد منها من تلاعب بها.

هذه التلاعبات، تقوم بها بعض منصات التداول أيضا-الحقيقية والمزيفة أحيانا- حيث إنه على المشتري والبائع أن يكونا في منصة (نظامي حاسوبي) لتتم عمليات الشراء والبيع والاستثمار، وأحد أكبر تلك المنصات العالمية كانت منصة أف تي أكس FTX ، وقد انهارت هذه المنصة بشكل مدوٍ في نوفمبر 2022، وكان ذلك الانهيار بعد أن تم الكشف عن أن المنصة تستخدم أموال العملاء في استثمارات عالية المخاطر -بدون إذنٍ منهم أو علم- وتستخدمها أيضا كنفقات شخصية لمؤسس المنصة، وقد أدى ذلك لخسائر كبيرة للمتداولين والمستثمرين وللمنصة، الكثير من الخبراء والمختصين وصفوا ما جرى بأنه «إحدى أكبر عمليات الاحتيال المالي في تاريخ أمريكا». في سياق متصل، إحدى أكبر المنصات وشركات التداول في العملات الرقمية في العالم، هي منصة بايننس لمؤسسها «سي زي CZ» الذي استقال من منصبه في نوفمبر 2023 بعد إقراره بالذنب في تهمة غسيل الأموال وإقراره أن منصته بايننس فشلت في الإبلاغ عن أكثر من 100.000 معاملة مشبوهة. حالات مثل FTX وبايننس ليست مجرد حالات لأخطاء إدارية فردية، بل هي نتيجة مباشرة لغياب الإشراف التنظيمي الكافي الذي يسمح للمنصات بالعمل كبنوك غير منظمة.

هذا السوق الناشئ الهش، البعيد عن التنظيم، يجعل معظم الدول تبتعد عنه، بل وتتجاهل تنظيمه علاوة على دخوله أو الاستثمار فيه، بينما اتخذت بعض الدول خطوات جريئة للاعتراف بمثل هذه العملات الرقمية وتشريعها مبدئيًا، قامت دول أكثر جرأة -مثل الصين- بالاستثمار فيه، وهي الأخرى متهمةٌ -في العديد من المرات- بأنها تتلاعب بهذا السوق كذلك، فمثلا تقوم بمنع التداول أحيانا، وتسمح به أحيانا، لتنعش السوق أو لتجعله ينهار، وقد تمنع تعدين العملات الرقمية (وهذا التعدين هو عملية رقمية بحتة، تستهلك الطاقة لحل مسائل رياضية معقدة عن طريق حواسيب متخصصة، لتكون نتيجتها توليد عملات رقمية جديدة) وتسمح بهذا التعدين أحيانا حسب مصلحتها في ذلك الوقت.

عمليات الاحتيال والتلاعب هذه كما يقوم بها الكبار، يقوم بها الصغار كذلك، فهناك الكثير من المستشارين الماليين الذين يسوقون لأنفسهم بأنهم من ذوي الخبرة الطويلة وأنهم يحققون الربح السريع لمن يشترك معهم، ويقدمون التوصيات المالية، وبعدئذ يختفون، أو أنهم يتعاقدون مع منصات التداول لتقديم بعض التوصيات المالية الفاشلة لتربح المنصات من خسائر المتداولين. وهناك نوع آخر من الاحتيال الذي يطلب منك بعض المعلومات عن محفظة العملات الرقمية الخاصة بك ليقوم بالاستيلاء عليها أو سحب مبالغ منها، ولا يمكن تعقب الفاعل أو معاقبته مثلا، في عالم رقمي مشفر، بلا هويات واضحة ولا جهات وقوانين منظمة، وحين يقع أحدهم ضحيةً لإحدى عمليات النصب في هذا العالم المشفر، فقد يلحّ عليه الأمر أن يتفقد شركات المحاماة الدولية المتخصصة في مثل هذه العمليات لتستعيد أمواله، وقد يقع مرة أخرى ضحيةً لنوع آخر من النصب، حين يتضح أن شركة المحاماة وهميةٌ محتالةٌ هي الأخرى. وهذا النوع من الشركات منتشرة بكثرة مؤخرا، وقد تلاحظ انتشار إعلاناتها هنا في السلطنة.

وسلطنة عمان مثل كثير من الدول، لم تشرّع -بعد- التداول في العملات الرقمية، كما أن معظم البنوك تمنع استخدام بطاقاتها في هذه المنصات، وهذا ما يجعل الفرصة سانحة لدخول أطراف أخرى لتقوم بهذا الدور، وهنا تقع المخاطر. فقصة الشاب العربي التي بدأت بها المقال، ما كانت لتحدث لو أن العملية تمّت بين المنصة والبنك بشكل شرعي منظم، بينما في غياب التشريعات والتنظيمات فإن المشتري والبائع يعقدان الصفقات بينهما، فردا لفرد، دون وسيط، والضامن هو المنصة العالمية، والتي قد لا تكون لها سلطة أو قدرة على التحقق الكافي أن البائع -مثلا- قام بتحويل المبلغ -فعلًا- للمشتري، وهذا ما يخلق بيئة خطرة غير موثوقة.

لعل السبب الجذري لكل هذه الفوضى هو أن هذا الابتكار التقني الكبير، لنظامٍ مالي من الصفر، سبق التطور التنظيمي والقانوني له بكثير. هذا الفراغ القانوني التنظيمي هو الذي سمح بانتشار الاحتيال والتلاعب على نطاق واسع.

هذا السوق الحديث، المتاح 24 ساعة، كل أيام الأسبوع -بعكس الأسواق التقليدية التي تغلق في الإجازات- سوق شديد التقلب، كثير الفرص وكثير المخاطر أيضا، خاصة للأفراد ممن يفتقرون إلى المعرفة والخبرة الرقمية والمالية الكافية. ولعله حان على الدول أن تضع أطرًا تشريعية وقانونية واضحة، وتحاول خلق بيئة آمنة ومستقرة أكثر، تشجع الشركات الناشئة والمستثمرين على دخول السوق بثقة أكبر. فهذا يقلل من «المخاطر التنظيمية» التي تواجه المستثمرين، فالمستقبل ليس بالضرورة أن يبقى في حالة فوضى مستمرة. فمع زيادة الوعي وتراكم وتبادل الخبرات بين الدول والمؤسسات والأفراد، وتطور الأطر التنظيمية، يمكن لهذا السوق أن ينضج.

المعتصم الريامي مطور ومهتم بالتقنية