جيري ماكجوفرن وسو برانفورد / ترجمة - بدر بن خميس الظفري -

رغم كثرة ما كُتب عن البيتكوين (أحد أنواع العملات الرقميّة)، لا يزال كثير من الناس يجدون صعوبة في فهمه، حتى مع حماس مروّجين بارزين له، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يصفه بعملة رقمية ثورية ستستبدل النقود التقليدية بسرعة.

غير أنه، بخلاف النقود التقليدية، لا يوجد حاليًا بنك أو حكومة تدعم البيتكوين أو تضمنه أو تنظمه، ولا من يحمي صغار المستثمرين فيه. فهو، وفقًا لآراء المنتقدين، أداة غير منظمة للمضاربين، لا للمدخرين.

اليوم، يهيمن البيتكوين على عالم العملات المشفَّرة، وهي نوع من “النقود” الرقمية التي تعتمد على (التشفير)، وهو شكل معقد من الرياضيات يستخدم الشفرات السرية التي تتطلب فكّها للوصول إلى قيمتها. وفي النهاية، تقوم قيمة البيتكوين على ما يشبه الخيال أو الإيمان، فهو مجرد سلسلة من الأرقام الثنائية (واحد وصفر) موزّعة على شبكة الإنترنت، ويتم “تعدينه” من قبل قلة تمتلك القوة المالية والقدرة التقنية اللازمة لذلك.

وبهذا الشكل، يزدهر البيتكوين في سوق مضاربات عالية المخاطر، قد تشهد صعودًا هائلًا أو انهيارًا مدويًا. لكن، على عكس فقاعة سوق زهور التوليب في هولندا في القرن السابع عشر، التي تركت المستثمرين عند انهيارها بحدائق مليئة بالزهور الجميلة، فإن انهيار البيتكوين لا يترك لصاحبه سوى سلاسل من الأرقام الثنائية.

ومع ذلك، يمتلك البيتكوين أثرًا واقعيًا مستمرًا على البيئة، فكلما ارتفعت قيمته المتصوَّرة، زاد الضرر البيئي الناتج عن تعدينه، إذ يتطلب الأمر كميات متزايدة من الطاقة (مصحوبة بانبعاثات كربونية) لحل رموزه المشفَّرة التي تزداد تعقيدًا باستمرار.

البيتكوين: مصمم لحرق الطاقة

يتضمن التصميم الأصلي للبيتكوين عنصرًا يجعل تكلفته الطاقية تتزايد بشكل أُسِّي، بحيث تزداد القدرة الحاسوبية المطلوبة لفك الشفرة عامًا بعد عام. ففي عام 2010، كان بإمكان المستثمر استخراج البيتكوين باستخدام حاسوب مكتبي عادي، أما بحلول عام 2025، فقد احتاج هذا المستثمر إلى حواسيب فائقة الضخامة موضوعة في مراكز بيانات واسعة المساحة.

ورغم غياب الشفافية في هذا القطاع، فقد كشف تقرير في عام 2022 أن نشاط تعدين البيتكوين ينتشر في أكثر من ستة آلاف موقع جغرافي في 139 دولة ومنطقة. لكن أكبر مراكز البيانات، التي تمتلك أعظم قوة حاسوبية، تتمركز في أماكن محددة وترتبط غالبًا بمواقع إنتاج الطاقة.

هذه المراكز الضخمة، المتركزة بشكل كبير في الولايات المتحدة، تقوم بحل وفك سلاسل لا تنتهي من الأرقام في نوع من «يانصيب البيتكوين». يمكن التلاعب بهذا “اليانصيب” عبر ضخ قدر هائل من القدرة الحاسوبية فيه، إذ كلما زادت قوة المعالجة، ارتفعت فرص الفوز بالجائزة.

لذلك، أصبح التعدين اليوم لعبة للأثرياء، على حد تعبير بعض المحللين؛ لعبة تستهلك كميات هائلة من الكهرباء للتشغيل والمياه للتبريد، وتحرق بسرعة الشرائح الإلكترونية التي تحتوي على معادن نادرة ثمينة ومواد سامة، وكل ذلك في وقت يواجه فيه العالم أزمة طاقة وبيئة خانقة.

ويحذر مختصون من أن البيتكوين يتحول إلى سوق بمليارات التريليونات قائم على الجشع والمضاربة الجامحة والجريمة. وسواء كان هذا صحيحًا أم لا، فليس هو محور هذا المقال، بل التركيز هنا على البصمة البيئية العالمية المتسارعة النمو للبيتكوين.

البصمة البيئية المتضاعفة

لماذا التركيز على البيتكوين تحديدًا بينما هناك آلاف العملات المشفَّرة الأخرى؟ «يمكن القول بثقة إن البيتكوين يمثل أكثر من 95% من الأثر البيئي لهذه الصناعة»، كما أوضح الخبير في البيتكوين أليكس دي فريس من منصة ديجي إيكونوميست موقع مونجاباي. وديجي إيكونوميست هي منصة إلكترونية مخصصة لرصد الآثار غير المتوقعة للاتجاهات الرقمية.

تُقدِّر منصة ديجي إيكونوميست أن البصمة الكربونية العالمية لتعدين البيتكوين في عام 2025 تصل إلى نحو 98 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل تقريبًا الانبعاثات الكربونية لدولة قطر، التي تُعد الأكثر كثافة كربونية في العالم. كما يُقدَّر أن تعدين البيتكوين يستهلك حاليًا من الطاقة الكهربائية ما يساوي استهلاك بولندا، ومن المياه ما يعادل استهلاك سويسرا.

وليس التعدين الفردي وحده هو سبب استنزاف البيتكوين للبيئة، فهو يعتمد على تقنية تُعرف بـ سلسلة الكتل (بلوكتشين)، وهي نظام بطيء لمعالجة البيانات، حيث تخضع كل معاملة بيتكوين لعملية تحقق معقدة ومكلفة تُجرى عبر عدة حواسيب في شبكة واسعة. وتتطلب هذه العملية كميات إضافية هائلة من الطاقة والمياه والمواد الخام.

في عام 2025، أطلقت معاملة واحدة قائمة على البيتكوين 712 كيلوجرامًا من ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل البصمة الكربونية لـ 1,578,956 معاملة ببطاقة فيزا، وفقًا لبيانات ديجي إيكونوميست. كما استهلكت هذه المعاملة ما يكفي من الكهرباء لتشغيل منزل أمريكي متوسط لمدة تزيد على 44 يومًا، وما يكفي من المياه لملء مسبح منزلي متوسط الحجم. ومع ذلك، لا يزال البيتكوين عديم الفائدة تقريبًا في الأنشطة اليومية العادية، مثل شراء البقالة أو دفع ثمن القهوة أو الكرواسون. ورغم أنه يمكن نظريًا استخدامه، فإنه نادرًا ما يُستعمل بسبب رسوم المعاملات المرتفعة. وبقيت اللعبة مقتصرة على الدوائر المغلقة، حيث يتبادل المجرمون التعامل سرًا مع مجرمين آخرين، ويضارب المضاربون مع بعضهم البعض، فيما يظل صغار المستثمرين عرضة لخسائر فادحة.

لمحة تاريخية عن البصمة الطاقية للبيتكوين

عندما ظهر نظام البيتكوين لأول مرة في 3 يناير 2009، استقبله الوسط التكنولوجي بترحيب كبير. وقد صرّح المستثمر المخاطر مارك أندريسين قائلا: «من الصعب المبالغة في تقدير تبعات هذا الإنجاز». أما تايلر وينكلفوس، المشارك في تأسيس فيسبوك، فقال: «لقد اخترنا أن نضع أموالنا وإيماننا في إطار رياضي خالٍ من السياسة والأخطاء البشرية».

في السنوات الأولى، كانت الصين مركز صناعة التعدين، حيث استحوذت على نحو 70% من الشبكة العالمية. لكن في عام 2019، حظرت بكين عمليات تعدين العملات المشفَّرة، معتبرة أنها «غير آمنة، وتهدر الموارد، وتضر بالبيئة». ورغم استمرار التعدين في الصين سرًا، فقد انتقلت شركات كثيرة إلى الولايات المتحدة. ووفق دراسة نُشرت في مجلة نيتشر عام 2025، ارتفعت حصة الولايات المتحدة من عمليات تعدين البيتكوين بسرعة من 4.5% عام 2020 إلى 37.8% بحلول يناير 2022.

ونتيجة لذلك، تسببت عمليات تعدين البيتكوين في الولايات المتحدة مطلع العقد الحالي في «قدر من التلوث الكربوني السنوي يعادل إضافة 3.5 مليون سيارة تعمل بالبنزين إلى الطرق الأمريكية»، بحسب تقرير نيويورك تايمز.

كما أوضحت دراسة مجلة نيتشر أن «من منتصف 2022 إلى منتصف 2023، استهلكت أكبر 34 مزرعة تعدين في الولايات المتحدة نحو 32.3 تيراواط/ساعة من الكهرباء، أي أكثر بنسبة 33% من استهلاك مدينة لوس أنجلوس، جاء 85% منها من الوقود الأحفوري». أما مؤشر استهلاك الكهرباء للبيتكوين في جامعة كامبريدج، فقد قدّر أن تعدين البيتكوين شكّل بين 0.6% و2.3% من إجمالي الطلب على الكهرباء في الولايات المتحدة عام 2023، وهو ما يعادل استهلاك ما لا يقل عن 3 ملايين منزل.

الاقتصاد غير الدائري

عندما يُطرح موضوع الاستهلاك الهائل للطاقة في البيتكوين أمام مؤيديه، يردّون بأن هذا الوضع مؤقت، وأن هناك أساليب جديدة قيد التطوير ستقلل بشكل كبير من استهلاك الكهرباء في تعدينه. ومن بين هذه الابتكارات الموعودة الانتقال من «نظام إثبات العمل»، وهو آلية تحقق جماعية تتطلب قدرًا ضخمًا من القدرة الحاسوبية للتحقق من معاملات البيتكوين وإضافتها إلى سلسلة الكتل، إلى «نظام إثبات الحصة» الذي يستهلك طاقة أقل بكثير.

لكن كثيرًا من الخبراء يشككون في أن هذا النهج الموفِّر للطاقة سيرى النور يومًا ما. فقد صرحت الباحثة البارزة والناقدة في مجال العملات المشفّرة، مولي وايت، لموقع مونجاباي قائلة: «لن ينتقل البيتكوين أبدًا إلى إثبات الحصة». ويوافقها الرأي نيكولاس ويفر، الباحث في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، قائلًا إن الإجماع المطلوب في هذه الصناعة لتحقيق ذلك لن يتحقق أبدًا.

ويضيف كريس بنديكسن، الباحث في شركة (كوين شيرز)، وأحد أبرز خبراء تعدين البيتكوين في العالم قائلا: «أقدّر احتمال انتقال البيتكوين إلى إثبات الحصة بنسبة 0% تمامًا»، مبررًا ذلك بأنه «لا توجد رغبة لدى مجتمع البيتكوين في تدمير أمن البروتوكول بإجراء مثل هذا التغيير».

ادعاء آخر يروّج له مؤيدو البيتكوين هو أن العملة المشفّرة ستعتمد قريبًا على الطاقة المتجددة بالكامل. وتذهب بعض شركات العملات المشفّرة إلى تسويق نفسها على أنها «رائدة في إنشاء مرافق تعدين بيتكوين خضراء بالكامل». وقد ذهب بعض المدافعين البارزين إلى حد القول إن «مُعَدّني البيتكوين لا ينتجون أي انبعاثات على الإطلاق»، بينما تفاخر آخرون بسجلهم البيئي حتى أثناء توقيعهم عقودًا لشراء الفحم. وفي الولايات المتحدة، لا يزال 85% من الطاقة المستخدمة في تعدين البيتكوين يأتي من الوقود الأحفوري.

وحتى إذا تحوّل تعدين البيتكوين إلى الاعتماد على الطاقة المتجددة بنسبة 100%، فإنه سيظل مضرًا بالبيئة بسبب الكم الهائل من الكهرباء والمياه والمواد التي يستهلكها. تقول مولي وايت: «استخدام الطاقة المتجددة في تعدين البيتكوين هو في الأساس تلميع بيئي». ويدّعي بعض المؤيدين أن البيتكوين يسهم في اقتصاد دائري، وهو نظام مغلق لتجديد الموارد بلا نهاية، يقضي على النفايات والتلوث، ويعيد تدوير المنتجات والمواد، ويعيد إحياء الطبيعة.

لكن المنتقدين يرون أن ثروة البيتكوين تُنتَج عبر سلسلة إمداد خطية قائمة على الاستخراج المفرط، وتخلّف وراءها نفايات كبيرة. فالمصدر الرئيسي لطاقة البيتكوين لا يزال الوقود الأحفوري، من كهرباء تولدها محطات الفحم والغاز والنفط التي تطلق مركبات الكبريت الضارة بالصحة، والمركبات العضوية المتطايرة، والجسيمات الدقيقة الملوثة. يضاف إلى ذلك الاستهلاك الهائل للمياه لتبريد مراكز بيانات البيتكوين، التي توجد غالبًا في ولايات أمريكية تعاني الجفاف مثل تكساس وأريزونا. أما أشباه الموصلات اللازمة لتصنيع معدات التعدين فتحتاج في إنتاجها إلى (المواد الكيميائية الأبدية)، وهي مواد كيميائية سامة “أبدية” تحتاج قرونًا لتتحلل.

وهناك جانب آخر غير دائري، وهو أن تعدين البيتكوين يتطلب أجهزة حاسوب مزودة بشرائح مخصصة ومثبتة داخليًا، لا يتجاوز عمرها الافتراضي، خاصة الشرائح التي تعمل بأقصى طاقتها، 18 شهرًا، ثم يُتخلّى عنها غالبًا في مكبات النفايات، إذ إن إعادة تدوير الشرائح المصنوعة من مواد مركبة أمر شبه مستحيل اقتصاديًا.

في عام 2021، كان تعدين البيتكوين ينتج من النفايات الإلكترونية الصغيرة (الخاصة بالأجهزة الرقمية) ما يعادل إنتاج هولندا، فيما تعادل كل معاملة بيتكوين واحدة إلقاء هاتفي آيفون في النفايات الإلكترونية.

البيتكوين والعدالة البيئية

وكما هو الحال مع أنشطة الاستخراج المكثف للموارد، فإن الأثر البيئي والاجتماعي لتعدين البيتكوين غالبًا ما يظل مخفيًا في المجتمعات الفقيرة أو الأصلية (السكان الأصليين). فعلى سبيل المثال، منذ عام 2018، أُنشئت مراكز بيانات للبيتكوين في محميات أمة (النافاهو) للاستفادة من صفقات الطاقة الرخيصة المقدمة للمجتمعات الأمريكية الأصلية، رغم أن كثيرًا من المنازل المحيطة بتلك المراكز كانت لا تزال تفتقر إلى الكهرباء. وقال تايلر بونتي، من أبناء قبيلة النافاهو، لموقع فايس إن تعدين البيتكوين هو «استعمار مالي… أعتقد أن شركات البيتكوين تتغذى على مجتمعات مثل مجتمعي».

تعدّ تكساس مركزا لتعدين البيتكوين، حيث يدفع السكان هناك ما يقارب 5% إضافية على فواتير الكهرباء بسبب هذه الصناعة. وإلى جانب ذلك، فإن مزارع تعدين البيتكوين تصدر ضوضاء عالية نتيجة المراوح السريعة المستخدمة في التبريد لمنع ارتفاع درجة الحرارة. تقول نانيت صامويلسون، مفوضة مقاطعة هود، لقناة سي بي إس نيوز عد وصول أحد مناجم البيتكوين إلى مجتمعها الصغير في شمال تكساس: «يخبرني السكان أنهم لا يستطيعون النوم… الضجيج مستمر طوال اليوم وعلى مدار الأسبوع. إنهم يعانون من الدوار، وأطفالهم يخضعون لعمليات زراعة قوقعة لأنهم أصبحوا يعانون من ضعف السمع؛ هناك كل أنواع المشكلات الصحية».

كما عُرف عن بعض رواد أعمال البيتكوين استغلالهم للمجتمعات الفقيرة التي تمر بأزمات. ففي عام 2017، بعد أن دمّر إعصار ماريا جزيرة بورتوريكو الخاضعة للسيطرة الأمريكية، ظهرت خطط لإنشاء «بورتوبيا»، وهي جزيرة عملات مشفّرة مخصصة للمستثمرين الأثرياء. وسارع المنتقدون للتحذير من الاستغلال. تقول جيليان كراندل، المعمارية والأكاديمية في معهد رينسيلار للفنون التطبيقية، لموقع مذربورد إنّ «الاستعمار الرقمي للعملات المشفّرة يوظف أدوات استعمارية جديدة مثل السياسات الاقتصادية».

كان العنصر الجاذب الأساسي لبورتوريكو بالنسبة لـجماعة «إخوة البيتكوين» هو انخفاض الضرائب إلى مستويات قياسية. يقول ريف كولينز، وهو مستثمر في البيتكوين في الأربعينيات من عمره انتقل إلى بورتوريكو بعد الإعصار، لصحيفة نيويورك تايمز: «لا، لا أريد دفع الضرائب… هذه هي المرة الأولى في التاريخ البشري التي يستطيع فيها أحد، بخلاف الملوك أو الحكومات ، تكوين أمواله الخاصة». لكن هذا الوعد بالثراء لم يشمل فقراء بورتوريكو.

يقول الخبير في البيانات ستيفن جونزاليس، الذي تربطه صلات عائلية بالجزيرة، لموقع مونجاباي، موضحًا كيف تصرّف مستثمرو البيتكوين هناك: «الكثير منهم اشتروا عقارات بعد إعصار ماريا عام 2017، حين اضطر السكان غير القادرين على إصلاح منازلهم إلى مغادرة الجزيرة نحو البرّ الأمريكي. ولا يزال هناك جهد متعمد لتغيير النسيج الاجتماعي في شمال بورتوريكو، وخصخصة شواطئها، وإيجاد مجتمع مثالي خال من ضريبية العملات المشفّرة، مما يزيح البورتوريكيين ويدمّر البيئة والثقافة. كثيرون يسمّون هذه الحركة استعمار العملات المشفّرة، وأنا أؤيد هذا الوصف تمامًا».

وبينما كانوا يَعِدون الناس بجنة تكنولوجية، تجاهل رواد الأعمال التقنيون هذه المخاوف، زاعمين أن «العملات المشفّرة أداة ثورية لتحقيق المساواة المالية لغير المتعاملين مع البنوك». لكن، وكما كتب جون ريد ستارك في نيويورك تايمز، «أعتقد أن العملات المشفّرة هي عكس ذلك تمامًا، ومجرد مثال آخر على ما يسميه الباحثون «الإدماج الاستغلالي»، حيث تُمنح المجموعات المهمشة فوائد ضئيلة، بينما يجني الآخرون أرباحًا ضخمة».

في حالة بورتوريكو، رأت النخبة في البيتكوين أن العملات المشفّرة وسيلة لجذب المضاربين، وربما طريقة لإفراغ أجزاء من الجزيرة من سكانها الفقراء لصالح اقتصاد قائم على السياحة. يقول خوان إي. روساريو، الناشط البيئي والمنظم المجتمعي منذ زمن طويل في بورتوريكو، للكاتبتين نعومي كلاين ولورين فينيدي في برنامج ذي إنترسبت «إنها جزيرة معزولة، بها الكثير من الأشخاص عديمي القيمة… أشخاص يمكن الاستغناء عنهم. لسنوات طويلة، استُخدمنا كحقل تجارب للولايات المتحدة».

البيتكوين كـ“ملاذ”

يروج مؤيدو البيتكوين لفكرة أنه مثالي لصغار المستثمرين، وأنه أداة للمساواة، ووسيلة لـ»توفير الخدمات المصرفية لمن لا يملكون حسابات بنكية». ويقولون إنه لامركزي وديمقراطي بحق، ومناسب تمامًا لحاملي البيتكوين الصغار الذين يمكنهم بسهولة تحويل الدولارات إلى بيتكوين من خلال أجهزة الصراف الآلي التي تنتشر بشكل متزايد حول العالم. لكن الحقيقة أنه في عام 2025، «كانت أكبر 8% من المحافظ الرقمية للعملات المشفّرة تمتلك ما يقارب 99% من جميع البيتكوين المتداول»، وفقًا لما كتبه جو ويلكنز في موقع فيتشرزم، مما يجعلها واحدة من أكثر العملات مركزية في العالم.

ومن بين الفوائد المزعومة للبيتكوين أنه ملاذ للأشخاص في الدول النامية ذات العملات الضعيفة. يقول بعض المحللين: إن البيتكوين يسمح للناس بحماية مدخراتهم في البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية. وكوبا مثال على ذلك، حيث يعتمد جزء كبير من السكان على اقتصاد موازٍ لأن الرواتب غير كافية للعيش. وفي المناطق الريفية في بيرو، حيث لا يمتلك معظم الناس حسابات بنكية، يُقال: إن البيتكوين يوفر وسيلة للادخار.

لكن هذا «الملاذ» قد يتحول إلى فخ مضاربات لصغار المالكين، إذ إن تقلبات قيمته الشديدة قد تجعل البيتكوين عديم القيمة تقريبًا في اللحظة التي تحتاج فيها أسرة فقيرة في بلد نامٍ إلى صرفه من أجل حالة طارئة، مثل علاج طبي أو أي احتياج عاجل آخر.

في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز حذّر روبرت ماكولي، الزميل البارز في مركز سياسات التنمية العالمية بجامعة بوسطن، من أن تأثيرات انهيار البيتكوين على صغار المالكين قد تكون كارثية إذا حدث الانهيار: «في حالة الانهيار، سيخسر حاملو البيتكوين مجتمعين ما دفعوه للمعدّنين مقابل عملاتهم… ولن يكون لدى هؤلاء أي جهة يمكنهم ملاحقتها لاسترداد أموالهم، إذ ستتبخر ببساطة، لتصبح خسارة اجتماعية خالصة.»

وفي العالم النامي، قد لا يؤدي هذا السيناريو إلى إفلاس العائلات فحسب، بل المجتمعات بأكملها، بل وحتى دول فقيرة إذا كان انتشار البيتكوين واسعًا بما فيه الكفاية. ففي عام 2021، أصبحت السلفادور أول دولة تعتمد البيتكوين عملة قانونية، لكن التجربة سرعان ما انتهت بالفشل، كما أشارت مجلة الإيكونوميست. وقد تبنّت دول مثل الإمارات وسويسرا وسنغافورة ونيجيريا سياسات لتعزيز استخدام البيتكوين.

اندفاع ذهبي في القرن

الحادي والعشرين

ما الجدوى إذن من البيتكوين؟ المؤكد أن المضاربين والمؤثرين قادرون على جني أرباح هائلة منه. من بين هؤلاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن قبل أيام من تنصيبه عن إطلاق عملته الرقمية الساخرة ($TRUMP) ، محققًا ملايين الدولارات بين ليلة وضحاها، قبل أن تنهار قيمتها خلال أيام، مسببة خسائر فادحة، ليس لترامب الذي كان قد قبض أرباحه، بل لمئات الآلاف من صغار المستثمرين.

أطلقت ميلانيا ترامب عملتها الرقمية الساخرة الخاصة، ($MELANIA)، بعد أيام من إطلاق زوجها لعملته. ووفقًا لـ نيوزويك، «ارتفعت قيمتها في البداية إلى 13.73 دولارًا للرمز… وفي غضون أسابيع، هبطت بنسبة تقارب 90% إلى 1.50 دولار». ومرة أخرى، لم تكن ميلانيا هي من دفع الثمن، بل صغار المستثمرين. وبعد أن فقدت العملة 96% من قيمتها، وصفتها صحيفة إيكونوميك تايمز الهندية بأنها «دراسة حالة في علامات التحذير من العملات المشفّرة».

غير آبه بهذه الخسائر، أعلن إريك ترامب، نجل الرئيس الأصغر، في مارس عن شراكته مع شركة العملات المشفّرة (هَت 8) لإطلاق شركة تعدين جديدة باسم «أمريكان بيتكوين». وصرّح عن المشروع قائلًا: «نحن نفعل ذلك في أمريكا، مع حكومة ملتزمة بتوفير الطاقة منخفضة التكلفة»، مضيفًا أن هذه السياسة «تزداد تحسنًا». وتحت إدارة ترامب، أصبح شعار سياسة الطاقة في الولايات المتحدة «احفر، احفر»، مع إلغاء القيود البيئية ودعم إنتاج الفحم والطاقة النووية والنفط والغاز.

ويرى كثيرون أن العملات المشفّرة لا تسهّل إلا الربح السريع على حساب المجتمع. يقول الخبير الاقتصادي وعالم الشبكات ألبرتو كوتيكا لموقع مونجاباي: «لا نحصل على أي شيء كمجتمع… نحن نتكبّد ضررًا (استهلاك الطاقة وتغيّر المناخ واستنزاف المواد) لشراء ضرر آخر (أصول مالية مضاربية، أي ثقافة الكازينو، إضافة إلى غسيل الأموال ونموذج عمل لبرمجيات الفدية)».

طُوّر (مؤشر تقلبات البيتكوين) من قبل منصة كريبتو كومبير بالتعاون مع كلية إدارة الأعمال بجامعة ساسكس، لقياس التقلبات التي يتوقعها السوق، فكلما ارتفعت قيمة المؤشر، زاد مستوى التقلب المتوقع. وطوّر مؤشر مشابه للذهب، حيث لم يتجاوز أقصى تقلب له منذ 2015 نسبة 50%، في حين تراوح مؤشر البيتكوين بين 50% و300% خلال بضعة أشهر فقط، ما يدل على أن السوق كان يتوقع تقلبات أكبر بكثير للبيتكوين مقارنة بالذهب.

ورغم هذه المخاوف، يقول بعض المحللين إن حظر العملات المشفّرة غير مرجّح. فدراسة صادرة عن معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات تؤكد أن البيتكوين أو ما يشبهه سيستمر، إذ «لا يمكن إهمال التقدم التكنولوجي في مجال وسائل الدفع». وترى الدراسة أن حظر البيتكوين سيكون عديم الجدوى، وأنه «يقع على عاتقنا جميعًا إيجاد الحل الأمثل، ليس فقط من حيث الكفاءة الاقتصادية، بل أيضًا من حيث ضمان الأسس اللازمة لتنمية طبيعية للأجيال القادمة».

ويحتفل المؤيدون بالتوسع السريع للصناعة، حيث صرّح الملياردير مايكل سايلور: «نحن في اندفاع ذهبي للبيتكوين». وقد تكون هذه المقارنة صحيحة، ولكن ليس بالطريقة التي يقصدها مؤيدو العملة. فالمنتقدون يحذرون من أن البيتكوين سينهار يومًا ما، وأنه من دون تنظيم مالي وبيئي، قد يشبه العالم بعد انهيار العملات المشفّرة اندفاع كاليفورنيا نحو الذهب في القرن التاسع عشر، الذي خلّف وراءه مناجم مهجورة، ومدنًا خاوية، وأنهارًا ملوثة، وأرضًا متدهورة، إلا أنّ انهيار البيتكوين، باعتباره عالميًا، قد يكون أسوأ بكثير.