ترجمة: أحمد شافعي -
تغير الكثير في السياسات الأمريكية خلال الأشهر الستة الأولى لوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، حتى ليسهل نسيان أصول هذه التغيرات. يسهل النظر إلى الاضطرابات باعتبارها غير مسبوقة وغير متوقعة. ويسهل أيضا اعتبارها نتاجا للصدفة إلى حد كبير. فبدلا من كون ترامب نتيجة قوى تاريخية جديدة بالكلية هو الذي أطلقها على العالم؛ قد يكون الأمر أنه صادف الرئاسة للمرة الثانية لمحض أن مشاعر اليقظة أصابت المحترمين من الشعب بالرعب. فقد تعثر جو بايدن، وجاءت كمالا هاريس متأخرة إلى السباق. وبالمثل إذا ما وصل زهران ممداني إلى منصب حاكم ولاية نيويورك في الخريف فقد لا يحدث ذلك؛ لأن الشعبوية اليسارية بلغت ذروتها، ولكن لأن خصميه أندرو كومو، وإريك آدمس أشد افتقارا إلى الكفاءة حتى مما كانت هاريس. وعلى رأي المثل الروسي؛ في فم الناخبين الجياع حتى الرغيف شبه المخبوز يكون طيب المذاق.
قد ينطبق هذا على ما يبدو أنه بحر تغيرات يعتري اليمين فيما يتعلق بإسرائيل. فعلى مدى أجيال؛ كان التصور الراسخ هو أن اليمين يقف وراء إسرائيل قلبا وقالبا. واليوم بسبب الذهول من جرائم الحرب في غزة يزداد عدد الديمقراطيين الذين يبدو أنهم قد انقلبوا على إسرائيل. وفي الوقت نفسه، وفي تقارب غريب لمشاعر درجت على الاستقطاب؛ يحدث الأمر نفسه في اليمين. ففي الفترة الأخيرة ظهر أستاذ العلوم السياسية المرموق جون ميرشايمر في بودكاست تاكر كارلسن ليعلن أن المشروع الصهيوني عنصري، ويتعلق بالتطهير العرقي منذ بدايته.
ودعكم من المشروع الصهيوني الذي بلغ الآن على أيدي بنيامين نتنياهو وجلاديه إلى نهاية طريق مسدود عنصري، ويحتمل أن يكون إباديا. وبفرض أنه لم يكن عنصريا وربما إباديا منذ البداية؛ فلم يكن في جزم ميرشايمر أي شيء مدهش، أو في تقبل كارلسن له. فلم يزد ميرشايمر عن تكراره إحدى ثيمات كتاب «اللوبي الإسرائيلي» المثير للجدل الذي أصدره هو وستيفن وولت في عام 2007، ونجَم عن مقالة لهما نشرت في «لندن رفيو أوف بوكس» في العام السابق.
وليس هذا بالموضع الملائم للنظر في طرح الكتاب وردود الفعل عليه برغم اقتناعي بأن الكتاب كان مرتجلا على المستوى المعلوماتي ومفتقرا للدقة على مستوى احتجاجه بأن فصائل موالية لإسرائيل في واشنطن هي المسؤولة عما اعتبره وولت وميرشايمر ولاء أمريكيا للدولة اليهودية تدمر به الولايات المتحدة نفسها. لقد كانت الحرب الباردة هي السبب في موالاة أمريكا لإسرائيل. (تماما كما أن جشع رجال النفط الأمريكي هو الذي دفع أمريكا إلى غزو العراق، وليس اللوبي الإسرائيلي الأقل تربحا بحسب ما أصر عليه وولت وميرشايمر). ومع ذلك؛ يبدو الآن بعد ثمانية عشر عاما من فترة الحرب الباردة، وقرابة سنتين من الإبادة البطيئة للفلسطينيين في غزة أن فرضية الكاتبين الأساسية صحيحة.
سعى وولت وميرشايمر بصفة خاصة إلى استهداف المحافظين الجدد الذين اتهماهم بالارتباط بمصالح إسرائيل بما يقوض مصالح الولايات المتحدة. ولم يكن المحافظون الجدد غير فصيل واحد من فصائل الاتجاه المحافظ تهيأت له السيادة والاقتراب من السلطة. لكن المحافظين المتشددين paleoconservatives ـ مثلما كانوا معروفين آنذاك ـ كانوا موجودين في أقصى يمين السياسة الأمريكية. ويبدو المصطلح غريبا الآن؛ لسبب بسيط يتمثل في أن الجناح اليميني المتطرف في الحزب الذي كان يمثل ذلك المصطلح بات هو الجناح المسيطر. وبالمقارنة مع بهرجة حقبة زعيمهم ديك تشيني؛ فإن على المحافظين الجدد أن يشتركوا في حيز واحد مع شخصيات من حزب الشاي كانوا يعدون في يوم من الأيام حفنة من الحمقى.
خلافا لأغلب المحافظين الجدد اليهود؛ أشاد اليمين المتشدد بكتاب «اللوبي الإسرائيلي» ووصفه بأنه «إنجاز استثنائي». أو كان ذلك على الأقل تقدير مجلة «أمريكان كونزرفاتيف» التابعة لتيار المحافظين المتشددين التي تأسست على يد أحد آباء الشعبوية اليمينية الأمريكية هو بات باتشنان. وكان باتشنان هو الذي جعل الملاحظة التي كانت سيئة السمعة ذات يوم عن «وزارة الدفاع الإسرائيلية وعبّادها المخلصين في الولايات المتحدة»، وقد هوجم ذلك القول، واتهم بمعاداة السامية برغم دقة تصوره. ولعله لا يزال إلى الآن معاديا للسامية، ولكن أنّى لأحد أن يجزم بشيء؟ غير أن الهاجس المسيطر على اليهود المحدثين هو أنه ليس بوسع أحد القول على سبيل اليقين إذا ما كانت معاداة الصهيونية ـ في أي موقف ـ هي معاداة للسامية. فـ«الجميع يكرهون اليهود» كما قال الراحل العظيم توم ليرر في إحدى أغنياته. أهذا صحيح؟ أهو الآن أصح مما كان عليه فيما قبل غزة؟
لقد بدا أن حماس اليمين المتطرف لكتاب «اللوبي الإسرائيلي» أقل تجذرا في اتفاق واع مع فرضيات الكتاب ـ التي كانت بالطبع فرضيات محتملة ـ مما هو متجذر في تعبير غريزي عن عداوة اليمين لليهود التي ترجع إلى القس الكاثوليكي المعادي للسامية (والمشلوح لاحقا) الأب تشارز كافلن في ثلاثينيات القرن العشرين. وفيما بعد واصل السيناتور جوزيف مكارثي معاداة السامية اليمينية المتشددة، فكان أغلب ضحايا جلسات استماعه المعادية للشيوعية في الخمسينيات من اليهود. والحق أنه يبدو أن مكارثي هو الذي اخترع النموذج الذي غازل به ترامب معاداة السامية اليمينية مع «دفاعه» المخادع عن طلاب الجامعات اليهود في الوقت نفسه. وحتى في حين كان مكارثي يتجاهل اليمين الكاره لليهود في اضطهاده للكثير من اليهود؛ فقد كان يغالي في اتهام منتقدي تابعه المتشدد اليودي روي كوهين ـ وهو الذي صار أستاذا لدونالد ترامب فيما بعد ـ بمعاداة السامية. لطالما كان اليمين المتطرف -وبخاصة الكاثوليك فيه- يعج بمعاداة السامية. وقد قضى وليم إف باكلي ـ المعروف بأبي الاتجاه المحفظ الحديث ـ سنين يخالط معادين شرسين للسامية، حتى وهو ينأى بنفسه عنهم تدريجيا - في حركة مزدوجة تعد من طقوس اليميني المتطرف - بالإضافة إلى معارضته لإسرائيل، إلى أن ندد لاحقا بمعاداة السامية علنا سنة 1991. وفي ضوء صراع أمريكيا مع الاتحاد السوفييتي أصبح مناصرا شرسا لإسرائيل.
في أيامنا هذه نرى أن المشاعر المتشظية في اليمين تجاه اليهود لا تقل حدة؛ إذ يدعو تاكر كارلسن المدافعين عن النازية إلى برنامجه من أمثال لورا لومر التي تهاجم المسلمين باسم اليهود، وكنداس أونز التي تصف إسرائيل بـ«الدولة الشيطانية» كما دافعت مجلة ناشيونال رفيو عن أفعال إسرائيل في غزة، واستنكر جو روجان أفعال إسرائيل في غزة واصفا اليهود بـ«الجشعين». وفي الولاية التي أعيش بها -أي نيوجيرسي- يعد جاك سياتاريلي مرشح حركة «ماجا» لمنصب الحاكم مدافعا متحمسا عن إسرائيل، بينما وصفت منافسته الديمقراطية ميكي شيريل ما تفعله إسرائيل في غزة بأنه «إبادة جماعية» قبل أن تخفف من حدة تصريحاتها.
فالأمر الواضح هو أنه بعدما ساد اليمين المتطرف، واستحوذ على التيارات المعتدلة في التيار المحافظ لا ينبغي أن نندهش من أن معاداة السامية التي كانت دائما عنصرا أساسيا في اليمين المتطرف قد أصبحت هي الأخرى تيارا سائدا. يترافق مع ذلك مجموعة جديدة تماما من الظواهر. منها أنه على الرغم من تلميحات ترامب العابرة بنفاد صبره؛ فإنه سيبقي أمريكا وراء نتنياهو مهما فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي في غزة مكتفيا بدفعه من حين لآخر ليبدو معتدلا، فيخفف من صلابة منتقدي إسرائيل. ومنها أن ترامب يعلم جيدا أن مثل هذه الانتقادات التي يوجهها لإسرائيل من حين لآخر سترضي المعادين للسامية في أقصى اليمين الذين تتداخل معاداتهم للصهيونية مع معاداتهم للسامية.
ومن سمات هذا الوضع الجديد لليهود أن اليمين يتلاعب بما يزعم أنه حماسة للفلسطينيين تجتاح اليسار، وتشكل أساسا لشعبوية يسارية. وما ذلك إلا ذريعة لتشتيت الانتباه؛ فليس لفلسطين حتى بفظائع غزة وعذاباتها دور يذكر في المخيلة الأخلاقية للأمريكيين. ولقد وحَّدت فيتنام اليسار قبل ستين عاما، لكن الأمريكيين لا يموتون في غزة، ولن ينجرف الليبراليون الأمريكيون بعيدا عن خلافاتهم بسبب صراع خارجي ليست له عواقب حقيقية عليهم. غير أن ما يحققه اليمين -إذ يتظاهر بأن حماس اليسار التقدمي للفلسطينيين يشكل تهديدا لنجاحه الشعبوي- هو أمر ذو شقين: الأول هو إثقال كاهل اليسار من خلال إظهاره بمظهر المعادي للسامية. والثاني هو تغذية الجناح المعادي للسامية المتنامي في حركة «ماجا» بجعل اليهود وكأنهم في قلب كل اضطراب خارجي وداخلي برغم أن جرائم الحرب إسرائيلية في غزة، والغضب المؤيد للفلسطينيين لا يوحدان اليمين.
يضع اليمين اليهود ببطء في موضع المحفز السكينري Skinnerian بهدف إثارة نوع أو آخر من ردود الفعل بين الناخبين. وإن أخطر جوانب ترامب على اليهود، وعلى إسرائيل هو ما يبدو أنه محبة السامية [philo-Semitism] فهو لن يتخلى عن نتنياهو، وسوف يشجع نتنياهو على فظائعه، ثم يستخدمه لإثارة كراهية اليهود في اليمين، وذلك كله دون أن يحتج على الحب الأبدي لإسرائيل ولليهود. وليس من قبيل المصادفة أن يكون مايك هاكابي المسيحي الإنجيلي هو سفير ترامب في إسرائيل. فالعديد من الإنجيليين يؤمنون إيمانا يقينيا بـ«خطة الألفية» التي سوف تشهد ببساطة دمار اليهود الذين لا يقبلون المسيح في آخر الزمان خلال «محنة» السنوات السبع. ويصدر في خريف العام الحالي كتاب جديد عنوانه «معاداة السامية في نهاية الزمان» لأوليفييه ميلنيك متبنيا هذا الطرح. ومصداقا للمؤمنين بنظرية خطة الألفية؛ فإن مكافحة معاداة السامية مسار حيوي إما إلى اعتناق اليهود جماعيا، وإما إلى تدميرهم جماعيا، وهو شرط أساسي لمجيء المسيح. وبهذا؛ فإن التعلق بإسرائيل، ومعاداة اليمين للصهيونية يكملان معاداة اليمين المتصاعدة للسامية على نحو مثالي. ومن ثم فإن عناق الموت اليميني المعقد لإسرائيل يقع على بعد سنين ضوئية من احتضان المحافظين الجدد غير الواقعي لها. وكما هو الحال مع أمور كثيرة أخرى؛ لا يأتي ترامب بجديد، بل يتناول ما كان في السابق أمرا لا يصدق ـ وشهادة ذلك دعمه العلني لرئيس بولندا الجديد، وهو المشكك في الهولوكوست -، ويقذفه في دوامة الفوضى التي يخلقها، ويجعله محوريا وحيويا.
لي سيجل من كتاب أعمدة الرأي في صحيفة نيو ستيتسمان
عن ذي نيوستيتسمان