على عكس البروباجندا التي لا تكف وسائل إعلام عربية وبيانات رسمية عن الادعاء بأن العلاقات العربية - الإسرائيلية، والعلاقات العربية - الأمريكية قد تدهورت بسبب مقتلة ومجاعة عزة غير المسبوقة في التاريخ المعاصر؛ فإن هذا المقال يجادل بأنها توثقت، وشهدت تحسنا وتطورا غير مسبوق. بل لقد استخدمها عدد وازن من الأنظمة العربية كرافعة لإثبات التزامها المطلق بالبقاء ضمن الخندق الأمريكي، وعدم الخروج عن توجيهات واشنطن بالسلام مع إسرائيل، وإدماجها في البنية العسكرية والاقتصادية للمنطقة.

معظم الأنظمة العربية لم تخذل غزة، وتتركها للإبادة الجماعية بالقتل أو بالجوع فحسب، بل حولت هذه الحرب إلى مناسبة لتأكيد أن علاقتها بإسرائيل هي علاقة استراتيجية لن تتأثر بأي حروب تخوضها إسرائيل مع الفلسطينيين، أو مع أي طرف عربي ينتهج خط المقاومة.

بعبارة أوضح؛ فإن هذه الحرب استخدمت من قبل كثير من الأنظمة العربية لوضع فكرة الناتو العربي - الإسرائيلي الذي تقوده واشنطن موضع التطبيق الفعلي كما ظهر في التصدي للصواريخ الإيرانية واليمنية على إسرائيل، أو تسهيل مهمة الطائرات الإسرائيلية للتزود بالوقود في رحلتها العدوانية على إيران في أجواء عربية باتت مفتوحة ومتورطة بعد ديسمبر ٢٠٢٤.

تصرفت هذه الأنظمة في اتجاهين هما: التغلب على التهديدات التي خلقتها الأزمة، وتحويل الأزمة من تحدي إلى فرصة لمزيد من تثبيت نفسها كأنظمة حاكمة، وإضعاف المعارضة الداخلية وتهميشها.

واجهت هذه النظم تهديدين: الأول هو ما خلقته حرب غزة من ضغوط عليها للتحول عن مسار الخضوع الاستراتيجي للولايات المتحدة، والخروج من البنية الإقليمية الأمنية للمصالح الأمريكية في المنطقة التي تقوم على عمودين: أولهما هو استمرار حالة السلام مع إسرائيل والتطبيع معها .والثاني هو مواصلة عملية إدماج إسرائيل مع العرب في نظام للأمن الإقليمي معاد لإيران، وكابح لأي نفوذ جيو-سياسي صيني على الشرق الأوسط.

لم تلتفت هذه الحكومات إلى خطر التوحش الإسرائيلي على الأمن القومي العربي ولم ترد فكرة الدفاع عن أمن جماعي عربي على بال واحدة منها، بل إنها بمعيار المصلحة الوطنية لم تلتفت حتى إلى الخطر الذي يهدد أمنها وسيادتها كدولة وكشعب على المدى المتوسط أو الطويل من حيث إنه أصبح واضحا لكل عين أنها أصبحت موضوعة على لائحة الأهداف الإسرائيلية، وأنها قد تكون الضحية التالية في مخطط التوسع الإسرائيلي.

ما حرك هذه الأنظمة فقط ـ منفصلة عن شقيقاتها العرب أي كل على حدة ـ هو مصلحة واحدة هي مصلحة بقاء النظام السياسي القائم نفسه. وتحدد الهدف فقط في أن جعل كل نظام منهم همه هو التأكد من أن التهديدات الجيو-سياسية التي طرحتها الحرب لن تقوض استقرار النظام، أو تعرض استمرار نخبه السياسية في الحكم ونخبه الاقتصادية في نزح الثروة لأي تحدّ خطير.

نقطة البداية في التفكير الضيق في النظام وليس في الدولة، وفي الوقت الحالي وليس في مستقبل الأجيال القادمة هي الدفاع عن طبيعته كنظام سياسي نيو ليبرالي مربوط بخيط من الصلب المركز الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية في الاقتصاد بخيوط من الصلب بالولايات المتحدة في الاستراتيجية الدولية توابع وبيادق عسكرية وسياسية على رقعة الشطرنج العالمية. ولهذا كان الهم الأول هو طمأنة الولايات المتحدة أنه مهما حدث في غزة وفي الضفة فإن التحالف مع واشنطن ومع إسرائيل في مواجهة إيران ومحور المقاومة هو تحالف استراتيجي لن تهزه إبادة جماعية مهما بلغت بشاعتها وعدد ضحاياها. جاءت قرارات القمة المتأخرة ٣٥ يوما خالية من أي إجراء سياسي أو اقتصادي أو دبلوماسي لردع العدوان الإسرائيلي ملتزمة بالخطوط الحمر الأمريكية التي كان مضمونها الحقيقي «دعوا إسرائيل تكمل مهمتها العسكرية العدوانية في القضاء على المقاومة الفلسطينية واللبنانية وإضعاف إيران». أما الإدارة السياسية وقيادة المفاوضات حول الهدنة والرهائن فعلى العرب أن يدعموا أنها حصر لواشنطن ومن تراه من وسطاء في الإقليم، وعلى العرب ألا يفكروا مجرد تفكير في إدخال الصينيين أو الروس أو أي طرف دولي يحد من الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل.

الهم الثاني كان إبلاغ الإسرائيليين من دول اتفاقيات التسوية القديمة أو دول الاتفاقيات الإبراهيمية الحديثة أن ما يحدث بينهم وبين الفلسطينيين وما يصدر من بيانات تنديد وشجب عربي عن أفعال القتل والتجويع لن يؤثر على الاتفاقيات القائمة، ولا على العلاقات في مجالات التجارة والطاقة والتسليح والتكنولوجيا، وأن هذه الاتفاقات وجدت لتبقى بغض النظر عن مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة وعن محو الاستيطان الإسرائيلي الفعلي لأي أمل في حل الدولتين.

استمرت الأنظمة العربية البعث برسالة طمأنة لإسرائيل حتى بعد أن أعلن نتنياهو عن خطته الدموية لاحتلال مدينة غزة، وعن نواياه في تنفيذ تدريجي لخطة اسرائيل الكبرى (تشمل احتلال أراضٍ في العراق وسوريا ولبنان والأردن والسعودية ومصر). وعلى الرغم من أن هذه الخطط تعني إعلان إسرائيل حرب التوسع على الجميع، وأنها تنظر لاتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة على أنها اتفاقيات مرحلية نجد البيانات الصادرة عن أنظمة عربية تكتفي بالإدانة الفارغة، وتتحدث عن التمسك بخيار السلام والاتفاقيات الموقعة باستمرار بحثها عن حلول سياسية!!

تكاثفت الأدلة الفعلية على أن هذه الأنظمة ركزت على حماية نفسها من الغضب الأمريكي لو مارست أي فعل يعرقل أو يردع إسرائيل، وأن هذه النظم استخدمت الخطاب الإعلامي المندد بإسرائيل «في حدود مهندسة بدقة»؛ لاحتواء الغضب الشعبي العربي العارم المعادي لجرائم إسرائيل في التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، واستخدام سلاح التجويع في الحرب ضد أكثر من مليونين من أشقائهم الفلسطينيين.

من أهم هذه الأدلة ارتفاع إجمالي التبادل التجاري بين الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل بشكل واضح ليصل إلى 4 مليارات دولار خلال أشهر الحرب (أكتوبر 2023 - أغسطس 2024)، وهي زيادة من 3.6 مليار دولار في الفترة المقابلة من 2022-2023. وحصلت إحدى دول الاتفاقات الإبراهيمية لوحدها على ثلثي هذه التجارة.

المخيف في ارتفاع معدل التبادل التجاري ليس فقط في احتقار هذه الأنظمة لغضب شعوبها بزيادة التعاون مع إسرائيل بدلا من وقفها، ولكن أيضا أنه مثل فعليا دعما لإسرائيل في الحرب، وإنقاذا لها من صعوبات في سلاسل الإمداد كانت بالإمكان أن تردع نتنياهو عن الاستمرار في مقتله غزة.

فقد جعل أنصار الله في اليمن ممر التجارة الرئيسي إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر مشلولة، لكن زيادة الصادرات العربية خاصة من الخليج أنقذت إسرائيل، بل خلقت خط إمداد بري لوجيستي بري يمثل البروفة الأولى لمشروع التطبيع الكبير الذي أعلن عنه بايدن تحت اسم (ممر بهارات) الذي يربط الخليج بالبحر المتوسط عن طريق إسرائيل في أكبر عملية دمج إقليمي للكيان الاحتلالي العنصري في بنية الشرق الأوسط وبدور قيادي أيضا متفوقا على باقي العرب.

وفي الوقت الذي اقترب فيه عدد الشهداء والمصابين الفلسطينيين من نحو ٢٠٠ ألف شخص وقعت دول الاتفاقات الإبراهيمية اتفاقيات شراء أسلحة إسرائيلية من التي تقتل إخوانهم الفلسطينيين وصلت إلى١٢٪ من مبيعات السلاح الإسرائيلية ومنها «مسيرات هيرميس 900» وأسلحة أخرى، كما رفعت هذه الدول من مستويات التعاون والتدريب الاستخباري مع إسرائيل في خضم طوفان الأقصى إلى معدلات مخيفة قد تهدد الأمن الإقليمي لجيرانها العرب!!

لإعطاء إسرائيل رسائل استراتيجية لا تقبل الشك في أن الاتفاقيات معها تعلو على أي تطور في القضية الفلسطينية. وقعت اتفاقيات في التجارة والطاقة من عدد من الدول العربية تمتد لعقود قادمة وهي لا تربط فقط أمن الطاقة بإمدادات تتحكم بها إسرائيل، ولكن تشي بوضوح أن احتمال حدوث مواجهة أو وقف للتطبيع؛ لسبب يتعلق بما تفعله إسرائيل في فلسطين أو لبنان أو سورية ليس واردا على الإطلاق. بعبارة أوضح أنه ما لم تشن إسرائيل حربا على هذه الدولة أو تلك أو تفرض عليها تهجيرا قسريا للفلسطينيين فإن على مخططي الاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب أن يطمئنوا تماما لموقف الطبقات الحاكمة في معظم العالم العربي.

حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري.