المتتبع لقصص التحول الوطني التاريخية في العالم الحديث يجد أنها تشترك في الكثير من عوامل النجاح والتأثير؛ مثل قوة التلاحم بين الإرادة السياسية والإرادة الشعبية في طريق التحول، ووجود نظام وطني فاعل للمحاسبة والمراقبة، وهدف محدد ومشترك تتوافق عليه لغة القيادة السياسية مع لغة المجتمع، والتوظيف الذكي للموارد والإمكانات وتسخيرها في سبيل خدمة العناصر التي تستطيع أن تقود عملية التحول فعليًا، وعنصر (التضامنية) لدى المؤسسات والقيادات؛ غير أن هناك عاملا مهما يندر الالتفات إليه بالتحليل والدرس، ويغيب غالبًا وسط التركيز على الهياكل والإجراءات والعمليات ومسارات التخطيط؛ وهو (سردية التحول Narrative of transformation). وهذه السردية ليست شعارًا نصيًا أو أيقونة معبرة وموجزة لمجمل الرؤى والخطط المراد تحقيقها؛ بقدر ما هي التصورات الموحدة التي يستطيع السياسيون والقائمون على التخطيط زرعها في ذهنية المجتمع ما قبل عملية التخطيط وحتى مسارات التنفيذ والتقدم ، وهي تفضي إلى أنه حين تسأل الجميع من الوزير إلى رجل الأعمال، ومن المعلم إلى سائق الحافلة، ومن الطالب إلى الطبيب الجراح، ومن حارس المنشأة إلى اللاعب الرياضي عن وجهة البلاد تضمن أن تكون هناك إجابة واحدة متصورة وراسخة في الذهن الاجتماعي ومتفق عليها؛ وحين نقول (إجابة واحدة) ليس بالضرورة أن تكون كلمة أو عبارة؛ ولكنها تعبيرات أو سرديات تؤدي نفس المعنى، وتؤكد على القناعات ذاتها، وتعكس الإيمان ذاته بالمسار الذي تسير إليه كافة الجهود.
ومما لا شك فيه أن الوصول إلى هذه الحالة يستلزم عملًا كبيرًا؛ ليس فقط على مستوى (الإعلام بالرؤى والخطط) أو تسويقها للمجتمع، وإنما في القدرة على تصميم كل حراك سواء كان مشروعا أو قانونا أو سياسة وطنية أو مبادرة أو أي جهد آخر بطريقة تشعر كل الفاعلين المؤسسيين والمجتمعيين أنها جزء من حركة المركب (في الاتجاه الصحيح) نحو تحقيق الحلم المشترك، والأهم هو أن يستشعر الجميع أن هناك حلمًا يصار إليه ويتجه نحوه. وفي تقديرنا فإن نجاح صناعة سردية وطنية للتحول يقوم على ستة عناصر أساسية: أولها لغة التواصل السياسي؛ وهذه تستلزم أن ما يقوله المسؤول في مختلف المستويات وفي كافة القطاعات يشي بذات اللغة والمنطق والمغزى الذي تتوجه إليه الرؤى والخطط، وثانيها ربط التخطيط بالتنفيذ بطريقة سهلة ومباشرة يستطيع من خلالها المجتمع أن يكون رقيبًا ومشاركًا في التنفيذ وتصويب المسارات، وثالثها التأكيد المستمر على الوجهة النهائية، وهذه الوجهة لابد أن تحددها ميزتنا التنافسية؛ ما أولويتنا القصوى؟ بالتأكيد أن هناك أولويات متعددة؛ ولكن ما هي الأولوية التي نستطيع من خلالها أن نجمع المجتمع على حلم مشترك / ويستطيع المجتمع أن يشارك في تحقيقها / ويستطيع المجتمع أن يحصد ثمار الوصول إليها / وتستطيع هذه الأولوية كذلك أن تجعلنا ذوي سمة في محيطنا الصغير والكبير. هذا ما يجب التركيز عليه وإبرازه، إن تحديد وجهات واضحة ومحددة وكبرى للرؤى والخطط الوطنية يسهل بشكل عام تحقيق الإجماع العام عليها وتحقيق الإيمان بها.
أما رابع عناصر صناعة سردية التحول الوطني فهي في جهاز إعلامي متنوع، ورسالة إعلامية ذكية ومواكبة وقادرة على الولوج إلى مختلف الفئات والاهتمامات و(الأمزجة)، بما في ذلك تركيبة الاهتمام المتباينة لدى الأجيال، والقدرة على إيصال رسالة أن هذه الرؤى أو الخطط تمسهم وتتلامس معهم اليوم وغدًا وتشكل مسار مستقبلهم، أما العنصر الخامس فيتشكل في لغة الإلهام بالمستقبل لدى القيادات ومختلف الطبقات المسؤولة في مواقع التنفيذ، وكيفية القدرة على صياغة لغة تحفيز مستمرة، وحكي قصص ملهمة تقود الإيمان بمسار التحول المنشود، أما سادس العناصر وأهمها فهو في التغيير الملموس في حياة الأفراد وواقعهم من خلال مختلف المشروعات والبرامج ومجمل ما يتم تنفيذه انبثاقًا عن هذه الرؤى أو الخطط بشكل عام.
وقد اهتمت الكثير من الدول عبر قصص التحول الوطني بمسألة صنع هذه السرديات، بعضها قد تأتى من ظروف تاريخية مواتية كشعار «البقاء» في قصة سنغافورة وسردية الـ «Wirtschaftswunder» في الصعود الاقتصادي لألمانيا وسردية التركيز «الوحدة» في قصة تحول رواندا، ولكن اليوم هناك إدماج مباشر للعلم والأبحاث المتخصصة في صنع وتوجيه هذه السرديات، وأنشأت بعض الدول لها كيانات مؤسسية وهيئات حكومية متخصصة بخلقها ومتابعتها وتصويبها وتعزيزها، وأصبحت تستفيد من أبحاث علوم النفس والاجتماع وأبحاث السلوك والشخصية وظهر ما يُعرف في الاقتصاد اليوم بـ(الاقتصاد السردي Narrative economics) الذي يمكن أن نوجزه في أنه ينطلق من خمسة مبادئ رئيسية أن سلوك الناس الاقتصادي مدفوع غالبًا بما يتعرضون إليه من قصص، وأن القصص سهلة الانتشار بين الناس كالأوبئة، وأن كل قصة تشكل سردية في ذهن الناس وتتفاعل مع السوق (فترات التضخم، العرض، الطلب، الركود، الكساد..)، وأن هذه القصص والسرديات تظل مستمرة وتعبر عن نفسها بأشكال عبر الأجيال، وأن فعالية السياسة والقيادة في تغيير الواقع تتكئ على قوة السرد وتغيير صياغة السردية القائمة.
وفي تقديرنا فإن هذه الثورة الهائلة في تجارب السرد الوطني، وفي العلوم المتصلة بها، وفي الأبحاث التي تعززها أو تعطي أبعادًا أعمق لفهمها يجب أن تستثمر بطرق مركزية، بحيث تسهم في أن تكون الجهود الوطنية، والحراك الوطني الكبير الذي تشهده مختلف مستويات الرؤية الوطنية وما ينبثق عنها من خطط ومشاريع قادرة على خلق هذه السردية المنشودة، وتحريك الدولة مع المجتمع في اتجاه تحقيق مقاصدها الكبرى.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان