في غابات «ألماتي» وطبيعتها حادة التضاريس، والمكسوة باخضرار فاتن، كانت أغنية «أجراس العودة» للفنان التونسي لطفي بوشناق ترن في رأسي، فمن بين ثنايا الجبال هائلة الارتفاع -في بلد محروم من أي صلة ببحر أو نهر- كانت الكلمات تنبعُ لتمضي مع مياه وادي «المارسان» شديدة البرودة، جراء ذوبان الثلوج على رؤوس الجبال البعيدة. آنذاك جمعتُ الماء بين يدي وتذوقتُ عذوبته بينما ارتفعت نبرة بوشناق المُتهكمة: «أجراسُ العودةِ إنْ قُرِعَتْ أو لمْ تُقْرَعْ فلِمَ العَجَلَة؟»!

هناك في قلب آسيا الوسطى التي عبرها المغول والروس، عبرت الكلمات المُوجعة، التي كتبها الشاعر السوري عماد الدين طه عام ٢٠١٨، مُحتجا على صفقة القرن، الصفقة التي لا تني تُزهقُ تحت عجلاتها المُسننة أجنحة الحلم العربي دون خجل أو رأفة!

انهمرت ندفُ الثلج فوق جبل «شمبولاك» في قلب النزهة العامرة بالمسرات، فانتابتنا قشعريرة لا محدودة، تماما كما فعلت الكلمات الجامحة: «العربُ بأخطر مرحلة وجميع حروفهم علّة»!

وبينما كان السائق «أصلان» الذي تلقى تعليمه في القاهرة وهو في عمر السادسة عشرة، يتحدثُ عن أهمية وجود اتحاد بين الدول ذات الأصول التي تشتركُ مع تركيا في اللغة والثقافة من قبيل: أذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، لتغدو جسرا بين قارتي آسيا وأوروبا، زلزل بوشناق الأرض الصلبة من تحتنا لتُعيدنا إلى واقعنا العربي المزعزع: «أغرتهم كثرتهم لكن، وبرغم جُموعهم قِلّة»!

أشرف إبراهيم في برنامجه المهم «المُخبر الاقتصادي»، أشار إلى استغلال إسرائيل للمنصات الاجتماعية لجمع التبرعات لشراء آلات القتل -لا سيما منصة الفيس بوك- وذلك بدعم من شركة «ميتا»، ولن يغدو الأمر خفيا عندما نعلم أنّ «جوردانا كوتلر» مستشارة نتنياهو، ومائة جندي وضابط سابق ممن يمثلون صوت إسرائيل يعملون في هذه الشركة، هنالك حيث يُسمحُ للسردية الإسرائيلية أن تنمو، بينما تُحذفُ مئات آلاف القصص الخارجة من جحيم المعاناة الفلسطينية!

وأتعجب حقا من بعضنا ممن تنازل -عن أضعف الإيمان- وأعني إعادة نشر قصص فلسطين مُعللين الأمر باليأس والقنوط، وكأنّهم لا يُدركون حجم الإرباك الذي يمكن أن تُحدثه قصّة واحدة في الرأي العام وفي الجدار الذي نظنه صلبا، ولنا أن نتصور أيضا السؤال الصعب: ١٠ ملايين إسرائلي يتحكمون في أكبر منصات العالم، بينما ٤٥٠ مليون عربي تُكتم أصواتهم وتشوه هويتهم! لأنّنا لا نملكُ منصات خاصة بنا، كما فعلت الصين مثلا عندما خرجت من عباءة الغرب.. يا إلهي: ألسنا حقا على كثرتنا قِلة!

في وادي «بوتاكوفكا» حيث يُحاصرك المكان بفتنته الأخاذة، تسيلُ المياه من علٍ، ويغمرك صوت الطيور بحنين جارف إلى حقول الطفولة شاسعة الامتداد، حقول تلونها الفراشات واليعاسيب، هنالك وحسب يصفعك بو شناق بسخريته اللاذعة كمن يقتنصُ منك بهجتك المتوهمة: «وبوادي النمل إذا عبروا، ستموت من الضحك النملة».. في الحقيقة، لا يمكن لهذه الكلمات إلا أن تُصيبنا في مقتل!

ويتعالى العبث عندما يُشير إلى جُحا الذي اشترط بقاء مسمار الحائط، ليُعطي نفسه شرعية العودة لزيارة مسماره: «مسمارُ الحائطِ ملكُ جُحا... سمسارُ الحيّ... وفي غفلة»، تلك الرمزية لمسمار يمنحُ كل الذرائع لوجودٍ مشؤوم، بل يُحرضُ السماسرة -وما أكثرهم- على البيع والشراء، بينما نحنُ العرب لا يمكن لأكثر من كلمة «غفلة» إلا أن تصفنا على نحو جيد!

العار والخزي يُوجعنا كلما شهدنا مُدنا مثل لندن ونيويورك وباريس وبرلين، تنتفضُ بمئات الآلاف من البشر الرافضين للتجويع المُمنهج في غزة، وعندما تُغلقُ المعابر تُسير السفن لمصير غامض، رغم الصرامة الأمنية وما قد يخسرونه جراء مواقفهم المُشرفة، فالحراك الغربي -اتفقنا أو اختلفنا- تُشكلُ مجتمعاته المدنية أوراق ضغط عميقة على الدول، الأمر الذي دفع بعضها لأن تفكر رسميا بالاعتراف بدولة فلسطين.

قد يظن البعض أنّ الشاعر عندما قال: «بازارُ الأرضِ المُحتَلّة»، قال ذلك على نحو من المبالغة، إلا أنّنا نعيشُ ما هو أشد وحشية من بازار تُعرضُ فيه الأرضُ للمناداة عليها.. إنّهم يُحدثون قيامة وحشية على مرأى العالم ومسمعه، بينما الموقف العربي فاقدٌ لرمزيته، مكبلٌ بالقيود، ولذا ليس لنا أن نلوم النملة الضاحكة!

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»