ترجمة: قاسم مكي -

لا أحد يحبُّ أن يُقال له لا، خصوصا دونالد ترامب. فرفض ما يُطالب به يقود إلى معركة سيخوضها إلى نهايتها المريرة. لذلك من الصعب القول إن قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) يوم الأربعاء الماضي بترك أسعار الفائدة على حالها عند معدل 4.25% إلى 4.5% كان نتيجةَ تصويتٍ عادي. بل كان رفضا عالي الصوت من أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (وهي التي تحدِّد السياسة النقدية) لطلب ترامب بوجوب خفض أسعار الفائدة.

من بين هؤلاء الأعضاء المصوِّتين رئيس البنك جيروم باول الذي عَدَّه ترامب عدوه اللدود. هاجم الرئيس الناقم باول بقسوة يوم الخميس ووصفه في منشور على الإنترنت بالبطء الشديد في اتخاذ القرار والمغالاة في الانفعال والعجز المفرط في التقدير السليم والمُسَيَّس إلى حد بعيد. (يقصد ترامب بذلك أن هذه كلها صفات لا تؤهله لتولي رئاسة البنك- المترجم).

ظل ترامب يدير في باله دون خفاء وطوال شهور إقالة باول قبل أن يُنهي فترة رئاسته للبنك في مايو القادم. لكن مثل هذه الخطوة غير المسبوقة والمشكوك في قانونيتها ستخاطر أيضا بتقويض استقرار اقتصاد الولايات المتحدة. وربما ردُّ فعل السوق على الرسوم المتبادلة التي أعلنها ترامب في أبريل سيبدو إزاءها مثل هزة خفيفة (لا تكاد تُذكر) على مقياس ريختر.

يمكن القول إن هجمات ترامب الحادة ضد باول ستطلق تحذيرات مخيفة حول تسييس البنك الفيدرالي وتعريض استقلاله للخطر. لكن تشابك السياسة مع «السياسات النقدية» في الكثير من بلدان الغرب صار القاعدة في السنوات الأخيرة حتى إذا كان الساسة ومسؤولو البنوك المركزية ممنوعين من الإقرار بذلك.

الرئيس ترامب، كالعهد به دائما، يكشف عن هذا التداخل بين الأدوار والصلاحيات بأسلوب فظ وعدائي. إنه مدعاة للقلق. ولكنه أيضا فرصة لتناول الكيفية التي ضلت بها المؤسسات المالية في الغرب، ضلالا مبينا، سواء السبيل.

لقد تغير الكثير منذ فترة ترامب الرئاسية الأولى. فعندما رشَّح باول لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي في عام 2017 كانت أسعار الفائدة متدنية تاريخيا. وكان يوجد إجماع عريض (وخاطئ) بأنها لن ترتفع مرة أخرى.

كان ذلك الوضع ملائما لترامب على نحو مثالي. فسياسته المالية احتاجت دائما إلى شروط خاصة جدا لكي تنجح. ذلك أن ضرائبها المنخفضة وإنفاقها المرتفع يمكن أن يتوازنا فقط عندما تكون تكلفة اقتراض المال «صفرا» عمليا.

حينها كان مسؤولو البنوك المركزية منخرطين سلفا في دعم الساسة بإنقاذهم للبنوك أثناء الانهيار المالي في عام 2008. جعل ذلك الطباعةَ المنفلتة للنقود أمرا طبيعيا وشكَّل سابقة في الولايات المتحدة فحواها أن بنك الاحتياطي الفدرالي هو مقرض الملاذ الأخير «السّخي.» فمع أسعار الفائدة القريبة من الصفر يمكن لترامب خفض الضرائب وزيادة العجز دون عقاب.

عندما حلَّت الجائحة كانت البنوك المركزية بما في ذلك البنك الفيدرالي ليست راغبة فقط ولكن متحمسة عمليا لتمويل كل شيء يَعِد به الساسةُ الناس. في الولايات المتحدة اتخذ ذلك شكل حِزَم تحفيز وصرف شيكات لكل أسرة بتكلفة بلغت بلايين الدولارات.

في بريطانيا تمثل ذلك في خطة «الإجازة المؤقتة بجزء من الراتب.» فقد تولى البنك المركزي طباعة النقود اللازمة لتمويلها والحكومة سدادَ أجور العاملين طالما لزموا البقاء في بيوتهم.

في الشهور المبكرة لجائحة فيروسٍ جديد كان ذلك مفهوما كإجراء طارئ. لكن لاحقا أثناء الجائحة عندما استمرت طباعة النقود وبدأت الأسعار في الارتفاع أصبح واضحا جدا أن البنوك المركزية الأخرى إلى جانب الفيدرالي تخلت عن تفويضها بالإشراف على الاستقرار المالي وفضلت دعم الآمال العارمة للساسة بما في ذلك أملهم في أن يصبح بعبع التضخم شيئا من الماضي.

لقد ضحَّى كل من البنك الفيدرالي وبنك انجلترا والبنك المركزي الأوروبي بالقواعد الاقتصادية الأساسية والحصافة على مذبح السياسة. وحتى بعد بلوغ التضخم على أساس شهري ضعف المعدل المستهدف بواسطة البنك الفيدرالي في ربيع عام 2021 ظل باول مصرا على أن التضخم عابر وقفزات الأسعار «ستتلاشى».

في الواقع منعت لافتة «الاستقلال» معظم المعلقين من انتقاد البنوك المركزية وظل العديدون منهم متوجسين من القيام بذلك على الرغم من أزمة تكاليف المعيشة التي قضت على رخاء الأمريكيين وأدت إلى انخفاض ملحوظ في المستويات المعيشية للناس.

الدعم الأعمى لسياسة الجائحة لم يكن الطريقة الوحيدة التي سَيَّس بها الفيدرالي صلاحياته في الأعوام الخمسة الماضية. فبعد انتخاب جو بايدن مباشرة في عام 2020 انضم الاحتياطي الفيدرالي إلى شبكة البنوك المركزية لحماية المناخ معتبرا بذلك التحول الأخضر اختصاصا جديدا له. (انسحب البنك من الشبكة قبل الفترة الرئاسية الثانية لترامب مباشرة بعد إقراره بأنه كان يغطي نطاقا واسعا من القضايا التي لم تكن جزءا من تفويضه.)

وفي عام 2022 عندما كان التضخم يرتفع بشدة أنكر الفيدرالي ذلك ودشن مؤشراتٍ لقياس جهوده في تطبيق «التنويع والمساواة والشمول» لضمان بقاء سياساته في المسار الصحيح.

ربما كان الرهان الأفضل له (بدلا عن ذلك) تدشين مؤشرات لقياس التضخم. لعبة المطاردة التي توجب على الفيدرالي الانخراط فيها بعد الجائحة والمتمثلة في رفع أسعار الفائدة لكي يلحق بالتضخم ألحقت ضررا ماليا بليغا بأمريكا. فمنذ يوليو شرعت الولايات المتحدة في إنفاق 921 بليون دولار لخدمة الدين. وهو ما يساوي 17% من إجمالي الموازنة الفيدرالية.

هواية ترامب في اللهو بمستقبل جيروم باول خطرة. حتى «حلم يقظتِه» بإمكانية إيجاد بدلاء له في رئاسة البنك خطرة كذلك. وتشجيع ترامب لكل من كيفن هاسيت مستشاره الاقتصادي وكيفن وارش العضو السابق بمجلس محافظي الفيدرالي على التنافس «فيما أصبح بُعرف بمعركة الكَيفِنَين» حول أيهما سيكون الأسرع في خفض أسعار الفائدة إذا تولى رئاسة البنك يدحض أي ادعاء بأن رئيس البنك يتم اختياره لخبرته وليس لانتمائه السياسي.

وما له دلاله أن عضوي اللجنة اللذين رفضا يوم الأربعاء قرار البنك بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، وهما ميشيل يومان وكريستوفر والر، صوَّتا لخفضها ويُعتقد أن ترامب يضعهما في باله لتولي رئاسة البنك.

لذلك التنافس وسط المتطلعين إلى رئاسة البنك «حول من الذي سيتفوق على الآخرين في خفض أسعار الفائدة» يمثل على أقل تقدير انعكاسا أمينا للخلط بين السياستين المالية والنقدية في الأعوام الأخيرة.

الى ذلك، تتزايد شكوك الأسواق في قدرة البنوك المركزية على إجبار الساسة على التخلي عن عاداتهم في الإنفاق والنكوص عن وعودهم (الانتخابية). فالأمريكان يدفعون سلفا ثمن تَسْييس البنك الفيدرالي.

كيت أندروز نائبة رئيس تحرير مجلة سبكتيتر للشؤون الأمريكية

الترجمة عن واشنطن بوست.