(1)
من مكاسب البحث عن نوادر الكتب والمخطوطات وفوائد العمل على إعداد عيون الكتب النادرة وروائع الإصدارات للنشر، في طبعات عصرية جديدة، فضلا على إعادة اكتشاف النصوص القيمة والمهمة والمرجعية والمطمورة تحت ركام السنوات والسيولة الرقمية، أقول إن من مكاسب ذلك كله هو إعادة القراءة وإعادة تقييم الأثر والمؤلف ومن ثم طرح وجهة نظر جديدة أو معاصرة بشأن هذا المؤلف أو ذلك الكتاب.. إلخ.
كل من اتصل بالدرس الفلسفي الحديث والمعاصر يعرف جيداً من هو برتراند راسل فيلسوف الوضعية المنطقية الأشهر؛ وقيمته وحضوره وتأثيره الواسع الذي مارسه على مدارس الدرس الفلسفي في العالم أجمع.
في عالمنا العربي، كان حضوره نافذًا وعميقًا؛ من خلال أحد أشهر دعاة الوضعية المنطقية في الثقافة العربية، وهو المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود، من خلال أطروحته الشهيرة التي نال عنها الدكتوراه من بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي، فضلاً على كتابه المهم عن «برتراند راسل» الذي صدر عن سلسلة (نوابغ الفكر الغربي) الشهيرة في منتصف القرن العشرين.
في الفترة ذاتها، تصدى ثلة من أساتذة الفلسفة المرموقين في الجامعات المصرية لترجمة عمله الضخم «أصول الرياضيات»؛ انطلاقًا من فرضية راسل "المنطقية" التي صارت بمثابة القانون الذي لعب أكبر الأثر في العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية والنقد الأدبي في القرن العشرين؛ يقول راسل: "المنطق هو شباب الرياضيات، والرياضيات هي مبلغ رجولة المنطق".
يقع مؤلف راسل العمدة في أربعة أجزاء كبيرة، سبق وأن صدرت ترجمتها العربية الكاملة عن دار المعارف المصرية، في السنوات الأول من النصف الثاني من القرن العشرين، بتوقيع كلٍّ من د. محمد مرسي أحمد، ود. أحمد فؤاد الأهواني ضمن إصدارات (المكتبة الفلسفية) القيمة.
وبعد ما يزيد على نصف القرن من صدور هذه الترجمة؛ يتصدى المترجم والطبيب والكاتب الموسوعي الشاب أحمد سمير سعيد لترجمة موجزٍ مختصر لعمل برتراند راسل الضخم «أصول الرياضيات»، عن دار آفاق للنشر والتوزيع؛ بعنوان «مقدمة إلى فلسفة الرياضيات» (Introduction To Mathematical philosophy)
وخلال الفترة القليلة القادمة ستعيد دار المعارف إصدارها هذا العمل الكبير في طبعته الكاملة الأصلية، وبمقدمة جديدة لأحد أكبر أساتذة الفلسفة والمنطق بالجامعات المصرية والعربية.
(2)
أما برتراند راسل، لمن لا يعرفه، فهو أحد أعلام الفلسفة والمنطق والأدب في القرن العشرين، وأحد أهم مُؤسِّسي الفلسفة التحليلية، حتى قيل إن كُتُبه وأوراقه البحثية هي الضِّلع الأكبر في هذه الفلسفة، وﻟ «راسل» فوق ذلك إنجازات واهتمامات كبرى؛ كنشاطه ضدَّ الحروب، والدعوة للسلام، فضلا على حصوله على جائزة نوبل في الأدب. وفي كتابه عنه، يترك الدكتور زكي نجيب محمود ﻟ"راسل" نفسه مهمةَ تعريف نفسه عن طريق سيرةٍ ذاتية أشبهَ بالمذكرات كتبها راسل نفسُه، ثم يَعرض لنا إيجازًا لفلسفته؛ سواءٌ الرياضية أو ما يتعلق بالمنطق منها أو بالتربية والأخلاق والسياسة، مع تخصيص جزء في نهاية كتابه التعريفي لمجموعة من النصوص المختارة ﻟ "راسل"، التي من خلالها نستطيع اكتشافَ فلسفته بوضوح.
وفي مقدمته الكاشفة للكتاب؛ يقول المترجم إن "راسل" قد اضطلع مع أستاذه وصديقه الفيلسوف "وايتهيد" بمهمة غاية في الصعوبة، لكنها مثلت حلماً مغرياً للغاية وقتها. كان القرن العشرين هو قرن الأحلام الكبرى، حاول الفيزيائيون، على سبيل المثال، الوصول إلى نظرية كل شيء لكنهم كلما حاولوا الاقتراب ابتعدوا، وذلك حتى اللحظة، حاول علماء الرياضيات ردَّ كل الرياضيات إلى قواعد المنطق الأولى حتى صدمهم "جودل" بمسلمته عن عدم الاكتمال فأصبح هذا الأمر من المستحيلات وهو ما عنى أن مشروع راسل ووايتهيد الطموح محكوم عليه بالفشل.
لكن هذا المشروع على الرغم من ذلك؛ يقول مترجم الكتاب، خلّف لنا منجزًا مهمًا للغاية وهو كتاب «برينكيبيا ماتيماتيكا»، وكتاب أصغر قليلاً هو كتاب «أصول الرياضيات»، وأخيراً كتاب «مقدمة إلى فلسفة الرياضيات»؛ وهو كتاب توجه به راسل في الأساس نحو العامة شارحًا أسئلة تتعلق بفلسفة الرياضيات، ومفهوم العدد، والعلاقات والنهايات والاتصال، وغيرها، وعلاقة ذلك بالمنطق، وهي الأمور المهمة لا بالنسبة إلى تاريخ العلم، لكن بالنسبة كذلك إلى أي دارس للرياضيات أو لأي قارئ عام تهمه المعرفة وتأمل أصول الأشياء ومعانيها.
في مقدمته، يوضح المترجم أن «مقدمة إلى فلسفة الرياضيات» موجزُ مشروعٍ ضخم للغاية، ومحاولة للكشف عن الأصول الأولى للرياضيات واشتقاقها من المنطق، كتبه برتراند راسل وهو في السجن بسبب معارضته للحرب العالمية الأولى، وقصد به التوجه للعامة، لذا فلم يلتزم فيه بالترتيب الأكاديمي، وإنما قصد إلى طرح أهم القضايا بأبسط الأشكال الممكنة، وقصد من ورائه إلى التعريف بالأمر، وإلى جذب المزيد من المريدين الذين قد يكون هذا الكتابُ بمثابة الفتح لهم؛ فيسعون نحو التبحر أكثر فأكثر في علوم المنطق والرياضيات (وكذلك دراستهما في بعدهما الرمزي الفلسفي).
(3)
أما عن الرياضيات ذاتها؛ بحسب مترجم الكتاب، فهي علم استنباطي: بالبدء من مقدماتٍ معينة، يصل إلى مختلف النظريات المكونة له عن طريق عمليات صارمة للاستنباط. من الصحيح أن الاستنباطات الرياضية في الماضي قد كانت تفتقر في الغالب بشكل كبير للتحدد والانضباط، ومن الصحيح كذلك أنه من النادر الوصول إليهما على نحو مثالي.
ويوضح برتراند راسل نفسه في مقدمته للكتاب أن دراستنا للرياضيات -إذا ما بدأناها بأكثر أجزائها إلفًا لنا- يمكننا متابعتها في أحد اتجاهَين متضادَّين، والاتجاه الذي نألفه أكثر من الآخر هو الاتجاه البنائي الذي ينحو بنا نحو تركيبٍ يزداد تدريجًا: فمن الأعداد البسيطة إلى الكسور، ثم إلى الأعداد الحقيقية فالأعداد المركبة، ومن الجمع والضرب إلى التفاضل والتكامل، وهكذا نمضي في السير إلى الرياضيات العليا.
وأما الاتجاه الثاني، الذي لا نألفه بمثلِ ما نألف الاتجاه الأول، فيمضي مستعينًا بالتحليل نحو ازديادٍ مطَّرِد في التجريد والبساطة المنطقية، فبدل أن نسأل قائلين: ماذا يُمكن تعريفه واستنباطه من المسلَّمات التي بدأنا بها، نسأل قائلين: ماذا عسانا واجدوه من أفكارٍ أكثر تعميمًا يُمكن بواسطتها أن نُعرِّف، وأن نستنبط ما كنا قد اتخذناه نقطةَ ابتداء؟
هذا السير في الاتجاه المضاد، هو الذي يُميز الفلسفة الرياضية إذا قُورِنَت بالرياضيات المعتادة، لكن ليكن مفهومًا أن هذه التفرقة ليست بتفرقة في الموضوع (الذي تدرسه الرياضة وفلسفتها معًا)، بل هي تفرقة في الحالة العقلية التي يصطنعها الباحث.
إن علماء الهندسة من الإغريق الأولين، حين انتقلوا من القواعد العملية التي كان يستخدمها المِصريون في مساحة الأرض، إلى القضايا العامة التي يُمكن بها تفسير تلك القواعد، ومِن ثَم انتقلوا إلى بديهيات إقليدس ومصادراته، كانوا بهذا ينتقلون في مجال الفلسفة الرياضية، حسب التعريف الذي أسلفناه، حتى إذا ما بلغوا في سيرهم مرحلة البديهيات والمصادرات، كان استخدامهم لها في العمليات الاستنباطية -كالذي نراه عند إقليدس- من اختصاص الرياضة بمعناها المألوف، إن التفرقة بين الرياضة والفلسفة الرياضية إنما تعتمد على نوع الاهتمام الذي يُحفز الباحث، وعلى المرحلة التي يكون البحث قد بلغها، لا على القضايا التي هي موضوع البحث نفسه.
(4)
إن هذا الكتاب أشبه ما يكون بعمل هربرت جورج ويلز «موجز تاريخ العالم» الذي جعله صاحبه بمثابة موجز مختصر مكثف لمؤلفه الموسوعي الأكبر «معالم تاريخ الإنسانية» الذي صدرت ترجمته العربية في 4 أجزاء كبيرة. ما يميز هذه الترجمة الجديدة قيام المترجم بإضافة موجز مختصر لتاريخ المنطق وعلاقته بالرياضيات؛ حيث سيزيد ذلك من فائدة الكتاب، برسمه صورة عامة للموضوع.
يلبي هذا الكتاب طموح كل دارسٍ للرياضيات لا يريد أن يقف عند مجرد التطبيق، لكن يتجاوزه إلى فهم عمق الأمر وحقيقته وأصله.

**media[3081703,3081703]**