وظلت مشاهد الأجساد الشاحبة كما لو كانت ظلالا لما نسميه إنسانا، والهياكل العظمية المغطاة بالجلد المهترئ، ظلت جميعها في عقولنا وذاكرتنا كما لو كانت كابوسا لن يتكرر. وبعد أقل من قرن، صرنا نشاهد المجزرة والمجاعة مباشرة وبالألوان، وصار للضحية صوت وهو يخاطبنا في لحظاته الأخيرة، فكيف يمكن لهذا أن يحدث؟ وما المغزى من استمرار حرب الإبادة رغم اعتبار قطاع غزة منطقة منكوبة؟ وكيف يمكن لهذا أن يكون مبررا للتطبيع؟
يتعدى الأمر هذا السياق ليتم توظيفه بصورة مباشرة وحية -كما في جزء من لبنان وسوريا- لتوسيع رقعة الاحتلال، في صورة مستفزة ورسالة مضمونها، إما الخضوع أو الإبادة.
فالكيان الصهيوني وراعيه الأول -أمريكا- يدركان أن شعوب المنطقة لا ترحب بهما، وهو ما كان جليا في دراسات علمائهما والإحصائيات التي توالت قبل وبعد فترة الربيع العربي.
وهو ما دق ناقوس الخطر لدى الكيان وأمريكا على السواء، فتتالت المشروعات التي تهيئ الناس لقبول الكيان باعتباره حقيقة واقعة ومفروضة، ومن منطلق شرعية القوة لا شرعية الحق كما عند الفلسطينيين.
فما يحدث في غزة من دعم غربي واضح وصريح للإبادة البيِّنة والتدمير الشامل، ليس المقصود به غزة وحدها -كما صرح بذلك عدد من وزراء الاحتلال علنا- بل هو رسالة ضمنية للجميع مفادها «تأملوا ما يحدث لمن يقاومنا، هذا ما ستلقونه إذا فكرتم بالمثل».
كما أنه لا يمكن بحال نسيان الرسالة المبطنة الموجهة نحو الوعي العربي بأجمعه والمحيط به كذلك، وهي أن مقاومتكم تؤدي في نهاية المطاف إلى الدمار والشتات والانهيار، ولن تحققوا النصر.
إنّ تجاوز الكيان لكل الخطوط الحمراء، والمحرمات، والألغام المخيفة للأفعال المتهورة عسكريا؛ ليس تجاوزا بريئا، بل هو شيء متعمد لردع كل من يفكر بالوقوف ضدها من الأفراد والأنظمة.
والأدهى من ذلك، أن لهذا الكيان حصانة من العدالة الدولية -أو ما يسمونها كذلك- فغزة والحال هذه أنموذج لكل العالم. لأجل ذلك تحديدا تصمت وتتردد كثير من الأنظمة تجاه الإبادة والجرائم الواضحة وضوح الشمس.
فكثرت الأفواه التي تدعو إلى الكف عن المقاومة والقتال إلى أن تتيسر ظروف النصر ومعادلتها، وإلى الخنوع للاحتلال وقبوله باعتباره واقعًا خيِّرًا أجد من المقاومة.
إننا أمام سابقة سياسية وعسكرية تبعث الذعر، فمنطق العقاب الجماعي الذي يتبناه الكيان يثبت سردية مفادها «من لا يُسلّمنا رقبته طوعا، نعرّض شعبه وأرضه للتدمير الشامل دون تمييز بين جنس أو عرق أو عمر محدد».
كما أن مفهوم الأمن القومي الذي كانت -ولا تزال- تتبناه أمريكا حين أرادت اجتياح العراق، تستعمله إسرائيل اليوم في قصف لبنان، واليمن، وسوريا، وإيران حتى! فيتعدى الأمر انتظار الفعل الذي يستدعي التحرك -تصنيع أسلحة، ابتداء بالمواجهة- إلى اعتبار المدارس، والمستشفيات، والمخيمات وحتى الفكر المقاوم كلها تصبح مسوغات سخيفة للقصف والهجوم. ليتحول مسؤولو تلك الدول -المنقادة- إلى ما يشبه الشرطة والحاجز الأول للكيان ذاته، لترسيخ فكرة أن الاحتلال ليس مصدر اضطراب وخراب وتدمير؛ بل هو ضامن للسلام والاستقرار، فمن يُسالم الاحتلال وينقاد له، يَسلَم منه -عسكريا بالطبع.
وهذا ما يحول مشهد غزة وأنموذجها إلى وسيلة ابتزاز؛ فتصبح الدول المحيطة رهينة لمشيئة الاحتلال وابتزازاته اللانهائية «فإما أن تفعل كذا، أو تكون مثل غزة».
وستستمر الابتزازات التي تبدأ بالتلويح بأنموذج غزة، ولا تنتهي إلا باعتبار واقعها الحالي أنموذجا لأي رفضٍ للانصياع لطلبات المُبتز اللانهائية. ولا يوجد مبتز يكتفي بالابتزاز لمرة واحدة فحسب، بل يصبح الأمر سلسلة ودوامة لا تنتهي، وإذا كان هذا الحال عند الأفراد؛ فللقارئ أن يطلق خياله لما يمكن أن يفعله الاحتلال والخطوط التي سيتجاوزها بابتزازاته لا محالة.
فهو ردع ليس المقصود بل شلَّ المقاومة أو التغلب عليها فحسب؛ بل أن يكون ردعا لذاكرة أي مقاومة مقبلة في فلسطين أو في أي مكان يقرر الكيان اجتياحه مستقبلا. فهو ردع للذاكرة، وللتفكير، وللشجاعة، ولأي ذكرى أو صورة أو فكرة أو كلمة يمكن استلهامها من المقاومة.
فإن تردع الذاكرة وتمحو سردية المقاومة، فكأنما تقطعُ السلسلة المتوارثة للحق والحقيقة في الأرض والشرف والذود عن حياض الوطن. والوحشية اللامسبوقة والقتل لأجل القتل ذاته، وسيلة إضافية لبث الذعر والرعب والخوف من المحتل باعتباره الوحش المحمي وغير القابل للمس، فتموت فكرة المقاومة بداخل المقهور قبل أن تولد حتى.
أما ردع الإلهام، فإنه يتلخص في تصريح سابق لمسؤول الاستخبارات الأمريكي بريت هولمغرين الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الاستخبارات والبحث في إدارة بايدن «الغضب يتصاعد ضدنا بسبب دعم إسرائيل عسكريا.
الحرب التي تخوضها حماس تُلهم الكثيرين»، وهو شيء يثير رعب الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة المهيمنة على العالم والمتحكمة في رقاب الأشهاد، لذلك ينبغي -وفق رؤية الصهاينة ومموليهم- أن تكون غزة عبرة لا لهذا الوقت فحسب، بل للقادم من الوقت والأجيال.
فهل سنشهد رضوخ مزيد من الأنظمة لمشيئة الاحتلال؟ أم هل يمكن أن تستخدم الدول العربية نفوذها وسلطتها في فرض واقع جديد؟ أم ستظل دوامة «التفاوض لأجل التفاوض» هي الواقع المأمول إلى أن تتم إبادة الحياة من على أرض غزة ولا يبقى فيها حجر ولا بشر؟ رغم كل الآلام والأفق الذي لا يبشر بخير، إلا أن المرء يردد تلك العبارة الخالدة «للبيت ربٌّ يحميه»، ولغزة ربٌّ وينصرها لا محالة.