ما أبشع مشهد الكهل الفلسطيني وهو ينهار أمام أعين العالم ليفارق الحياة، مادًّا يديه بوعاء وسط حشود جائعة للحصول على لقمة تعينه على ما تبقى من ساعات حياته.

مشهد أكد خيانة العالم للمبادئ والأخلاق الإنسانية، والزيف الجائر الذي مارسه على مدى 100 عام متشدقًا بها على منابر المنظمات الدولية، يعلّمنا فيها حقوق الإنسان يومًا بعد آخر، خيانة ليس كمثلها خيانة في التاريخ وهو صامتٌ على استحداث سلاحٍ جديدٍ يُبيد كل روح تعيش تحت سماء غزة دون أن يطلق عليها رصاصة واحدة من الاحتلال.

هذا المشهد يُلخص تلك المؤامرة الدنيئة التي استخدم فيها العدو التجويع وسيلة قذرة بحرمان سكان القطاع من أبسط حقوقهم على هذا الكوكب المتوحش الذي يتسابق مجرموه إلى تنفيذ إبادة جماعية يقودها الاحتلال على مرأى ومسمع من شرق العالم إلى غربه، دون أي اكتراثٍ بالقيم والحقوق بدءا من إبادة ممنهجة للأطفال؛ حتى لا يكبروا ويرفعوا السلاح في وجهه، وعلى النساء حتى لا تنجب المزيد منهم، وذلك منذ اندلاع الحرب حتى اليوم ليتجاوزوا نسبتهم 70 % من الـ60 ألف شهيد.

أكثر من 250 جائعًا خلال الأيام القليلة الماضية سقطوا على أرض فلسطين بغزة لأنهم لم يجدوا لقمة يحيون بها، في أكبر جريمة إنسانية منظمة عرفتها البشرية، لم تجد نداءات الشرفاء أي آذان مصغية لإطعام مَن أنهكتهم الحرب، الحصار على إدخال الغذاء والماء والمؤن المختلفة والأدوية والمستلزمات الحياتية التي يحتاجها سكان غزة، مع أنها قابعة منذ بداية الحرب على بُعد أمتار من معبر رفح، حيث تنتظر أكثر من 6 آلاف شاحنة شارة الدخول للقطاع، لكن عجزت البشرية جمعاء عن إدخالها إليهم.

نجح الاحتلال فعلًا في مسألة التجويع منذ 7 أكتوبر الماضي، وهي تجربة بالنسبة له مذهلة وفريدة وكان ينتظر بداية تساقط المجوَّعين عمدًا ليستمر في رفض كل المحاولات التي قد توقف الحرب من أجل هدنة وليس وقفًا دائمًا لها.

ما أسوأ الوعود التي يطلقها عند اقتراب التوصل إلى اتفاق، واستطاع مراوغة الوسطاء العرب حتى الآن، أما الوسيط الثالث فهو مدرك لأهداف الاحتلال وغاياته من كل العملية العسكرية التي ينفذها، بعد أن اختاروا التجويع بدل التهجير منهجًا للإبادة.

التجويع أصبح أمرًا خطيرًا؛ فنجاحه في غزة يعني إضافة عنصر آخر ضمن أدوات القضاء على الخصوم الذين عليهم الدور في الضفة ودول الجوار وما بعد دول جوار الاحتلال شرقًا وغربًا عندما تقوى شوكة تحالفه مع الدول المساندة له، فإن النتائج ستكون فناء العرب.

هذا المستقبل المظلم الذي ينتظرنا جميعًا، يراه البعض بعيدًا جدًا وغير قابل للتحقق، لكنه في الواقع قادمٌ لا محالة ويتحقق من مرحلة إلى أخرى طالما بقينا نشاهد ما يحدث في غزة، نعم الدور على كل كيان عربي؛ فطموح الاحتلال ليس فلسطين فقط، فواهمٌ من يعتقد ذلك؛ هذه المنطقة التي تعج بالثروات المتنوعة وموقعها الذي يتوسط العالم هي رأس الهدف والمبتغى، فمن يتحكم بها يستطيع أن يتحكم في مقدّرات العالم.

التجويع ليس خيارًا بل مطلب للاحتلال لإفناء أهل غزة وأيضا تنفيذ تجربة أتت أُكلها في مواقع أخرى في دول الجوار،

ونجاح التجويع يعني تخفيف تكلفة الحرب على الاحتلال؛ فالغزاوية سوف تتسارع أرقام وفيات جوعاهم خلال الأيام القادمة وستكون أكبر من أعداد مُغتاليهم اليومي، ومن لم يستطع قتله بسلاح جنوده وطائراته ودباباته ومسيّراته وخونته، سوف يُسقطهم بسلاح التجويع الفتاك الذي سيتشدد مع ارتفاع أعدادهم في التوصل إلى هدنة.