تراقب إسرائيل كلّ فرصة لتوسيع نفوذها في المنطقة وتستغلها، ففي كل مرة تجد أي مدخل لدولة ما أو منطقة، فإنها لا تتوانى في الدخول العسكري أو المدني إليها، وهذا يعيد إلى الأذهان الفكرة التي ما غابت أصلا منذ البداية، وهي أن إسرائيل مشروع استيطاني توسُّعي، لا تحده الحدود، وبالتالي فإنه في كل مرة يجد فرصة لا بد له أن يستغلها، وهنا تأتي المشكلة الأكبر، فإننا بعد قرابة السبعين عامًا، بدأنا نسكت، إما خوفًا من تضارب المصالح، وإما ظنًّا منا أن الحديث لم يعد مجديًا، أو أسباب أخرى عديدة، لكن هذا السكوت نفسه عن العدوان الإسرائيلي في فلسطين وفي الدول العربية ودول المنطقة، لا يحمينا من الخطر، بل يقدمنا وجبةً لاحقة ستؤكل كما أكلت سابقاتها.
ليس الأمر مشهدًا دراميًّا تضخيمًا لفكرة في الذهن، فالوجود الإسرائيلي في المنطقة يمثّل البقية الباقية من الإمبريالية، ولذا فالحفاظ عليها حفاظ على ذلك كله، وقد استطاعت إسرائيل خلال هذه السنوات منذ 1948 أن تصل للتحكم بمن كان يفترض أن يتحكموا بها، وسواء كانوا متحكمين أم متحكم بهم، استمر التوسع ولم تغادر الفكر الصهيوني وإن ادعوا عكس ذلك، فبقيت مشاريع مثل إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الجديد وغيرها تعود للخطاب الإسرائيلي في كل فترة من الفترات، مما يؤكد على أن المشروع لم يكن يومًا مقيّدا بفلسطين وحدها، بل يشملنا جميعا، وهذه الشمولية ليست بالضرورة أن تكون عن طريق الاحتلال العسكري أو السياسي، لكنه يُمكن أن يكون بطريقة العصا والجزرة، إما الطاعة أو التدمير.
لا تحتاج النزعة التوسعية الإسرائيلية إلى دليل، «وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ/ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ»، لكن لزيادة التأكد يُمكن النظر إلى العديد من الحالات التي تمارسها إسرائيل خلال الحرب الأخيرة فقط (ناهيك عن باقي التاريخ)، فإنها كلما وجدت فرصة لتوجه ضربات عسكرية للبنان أو سوريا لم تتأخر في ذلك، فدمرت العديد من المناطق في لبنان بالسلاح الجوي، فضلا عن الغزو البري في أكتوبر 2024، وكذلك الضربات المستمرة على سوريا، سواء قبل 8 ديسمبر 2024، أم بعد ذلك، والضربات الأخيرة خير دليل، فإن التدخل الإسرائيلي الأخير في المناطق السورية له هدفان بحسب تصريحات نتنياهو، الأول أن تكون منطقة جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح بحيث لا تدخلها القوات السورية، والثاني حماية الدروز، وبحسب تقدير موقف عن أحداث السويداء أعده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن نتنياهو يستغل هدف حماية الدروز داخليًّا للإبقاء على ناخبيه، وكذلك لتنفيذ ضربات على سوريا من أجل فرض القوة -لا سيما وأن الأمر جاء أثناء مفاوضات بين الطرفين- فإن تدمير مباني مثل مبنى الأركان العامة لا علاقة له بالأحداث في السويداء من حيث التفصيل العام. ومثل ذلك الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر، فإن احتلال قرية أم الرشراش وإنشاء ميناء إيلات المجاور لميناء العقبة في 1949 كان أول ذلك التمدد، وبعد أن ضمنت إسرائيل وجودها «انتقلت لوضع خطط تأمين في البحر ومنع أي تهديد لها منه، واستخدمت أنواعا مختلفة من الزوارق المسلحة بالصواريخ وقذائف الأعماق لمكافحة الغواصات»، أضف على الأمثلة السابقة، مثال تكرار الضربات الجوية على إيران، لضمان عدم وجود أي قوة أخرى في المنطقة تنافس القوة الإسرائيلية، وعلى الرغم من أن الوجود الإيراني في المنطقة مهم بالنسبة للولايات المتحدة مثلا لأنها تشكل نوعا من توازن القوى، إلا أن إسرائيل لا تعبأ بذلك فهي لا تريد هذا التوازن بينها وبين أي قوة أخرى، لكنها تريد السيطرة المطلقة، ولذلك ينطلق الخطاب الإسرائيلي عند نتنياهو وغيره من إسقاط النظام في إيران، ومحاولة تحشيد الداخل الإيراني لذلك. كل هذه الأمثلة تدل على أن إسرائيل لم تتوقف على الإطلاق عن نظرتها التوسعية ومحاولتها الحصول على أكبر قدر ممكن من المساحة والنفوذ والقوة والسيطرة في المنطقة.
لزيادة هذا النفوذ، يأتي التطبيع واحدًا من أهم العناصر التي تستغلها إسرائيل، فإن على الرغم من أن الظاهر يدل على التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين دولة في المنطقة وإسرائيل، إلا أن هدف إسرائيل من ذلك هو زيادة نفوذها بغطاء سياسي لا أكثر، ولذلك فإن إسرائيل المستفيد الوحيد من اتفاقيات التطبيع التي وقعتها في المنطقة، أما بقية الدول فإنها غير مستفيدة من الأساس، بل ربما عاد عليها ذلك بالضرر، وعلى الرغم من أنها قرارات سيادية تتخذها كل دولة، إلا أنها في الصورة الكبرى لا تقف حدود تأثيراتها على الدول التي اتخذت هذا القرار، بل يؤثر على الدول الأخرى التي تشاركها الحدود، وبالتالي يصبح الأمر أكثر تعقيدًا والتغلغل الإسرائيلي أكثر عمقًا، فكيف يُمكن حماية حدود دولة غير مطبعة من دخول إسرائيلي حصل على جنسية الدولة المطبعة فأصبح مواطنًا ينطبق عليه ما ينطبق على المواطنين الآخرين؟ وهذه مسألة بسيطة واحدة، والمسائل تكثر، وهكذا تحاول إسرائيل بالنحت على الصخر أو بالشرب من البحر أن تخترق مجتمعاتنا العربية ثقافيًّا، فإن كنا الآن رافضين لكل ما يحدث وساخطين، إلا أننا يُمكن في مرحلة قادمة أن نصبح راضين إن لم ننتبه الآن لهذه المسائل ونبدأ بتفكيكها معرفيًّا ومحاولة مقاومتها نفسيًّا أولا وثقافيا ثانيًّا.
إن إسرائيل مشروع مفتوح على الجغرافيا، فأين ما يجد له موضع قدم يضعها، وتصبح حدوده هناك، وهي تشبه بذلك إمبراطوريات العصور القديمة، أو فاشية القرن العشرين، لكنها أسوأ منها وأكثر عنجهية وبربرية منها بكثير، فقد جمعت كل مساوئ الدول الاستعمارية والفاشية وشكلت بها دولتها، وفوق ذلك ما تزال تأخذ أموالهم، وكثير من أموال منطقتنا العربية. لن تتوقف إسرائيل عن القتل وعن التوسع، فإن سكتنا لم يكن بعيدًا أن نكون ضحيتها التالية، وإن سكتنا اليوم، ربما لن نجد فرصة للكتابة والحديث غدًا.
ليس الأمر مشهدًا دراميًّا تضخيمًا لفكرة في الذهن، فالوجود الإسرائيلي في المنطقة يمثّل البقية الباقية من الإمبريالية، ولذا فالحفاظ عليها حفاظ على ذلك كله، وقد استطاعت إسرائيل خلال هذه السنوات منذ 1948 أن تصل للتحكم بمن كان يفترض أن يتحكموا بها، وسواء كانوا متحكمين أم متحكم بهم، استمر التوسع ولم تغادر الفكر الصهيوني وإن ادعوا عكس ذلك، فبقيت مشاريع مثل إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الجديد وغيرها تعود للخطاب الإسرائيلي في كل فترة من الفترات، مما يؤكد على أن المشروع لم يكن يومًا مقيّدا بفلسطين وحدها، بل يشملنا جميعا، وهذه الشمولية ليست بالضرورة أن تكون عن طريق الاحتلال العسكري أو السياسي، لكنه يُمكن أن يكون بطريقة العصا والجزرة، إما الطاعة أو التدمير.
لا تحتاج النزعة التوسعية الإسرائيلية إلى دليل، «وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ/ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ»، لكن لزيادة التأكد يُمكن النظر إلى العديد من الحالات التي تمارسها إسرائيل خلال الحرب الأخيرة فقط (ناهيك عن باقي التاريخ)، فإنها كلما وجدت فرصة لتوجه ضربات عسكرية للبنان أو سوريا لم تتأخر في ذلك، فدمرت العديد من المناطق في لبنان بالسلاح الجوي، فضلا عن الغزو البري في أكتوبر 2024، وكذلك الضربات المستمرة على سوريا، سواء قبل 8 ديسمبر 2024، أم بعد ذلك، والضربات الأخيرة خير دليل، فإن التدخل الإسرائيلي الأخير في المناطق السورية له هدفان بحسب تصريحات نتنياهو، الأول أن تكون منطقة جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح بحيث لا تدخلها القوات السورية، والثاني حماية الدروز، وبحسب تقدير موقف عن أحداث السويداء أعده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن نتنياهو يستغل هدف حماية الدروز داخليًّا للإبقاء على ناخبيه، وكذلك لتنفيذ ضربات على سوريا من أجل فرض القوة -لا سيما وأن الأمر جاء أثناء مفاوضات بين الطرفين- فإن تدمير مباني مثل مبنى الأركان العامة لا علاقة له بالأحداث في السويداء من حيث التفصيل العام. ومثل ذلك الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر، فإن احتلال قرية أم الرشراش وإنشاء ميناء إيلات المجاور لميناء العقبة في 1949 كان أول ذلك التمدد، وبعد أن ضمنت إسرائيل وجودها «انتقلت لوضع خطط تأمين في البحر ومنع أي تهديد لها منه، واستخدمت أنواعا مختلفة من الزوارق المسلحة بالصواريخ وقذائف الأعماق لمكافحة الغواصات»، أضف على الأمثلة السابقة، مثال تكرار الضربات الجوية على إيران، لضمان عدم وجود أي قوة أخرى في المنطقة تنافس القوة الإسرائيلية، وعلى الرغم من أن الوجود الإيراني في المنطقة مهم بالنسبة للولايات المتحدة مثلا لأنها تشكل نوعا من توازن القوى، إلا أن إسرائيل لا تعبأ بذلك فهي لا تريد هذا التوازن بينها وبين أي قوة أخرى، لكنها تريد السيطرة المطلقة، ولذلك ينطلق الخطاب الإسرائيلي عند نتنياهو وغيره من إسقاط النظام في إيران، ومحاولة تحشيد الداخل الإيراني لذلك. كل هذه الأمثلة تدل على أن إسرائيل لم تتوقف على الإطلاق عن نظرتها التوسعية ومحاولتها الحصول على أكبر قدر ممكن من المساحة والنفوذ والقوة والسيطرة في المنطقة.
لزيادة هذا النفوذ، يأتي التطبيع واحدًا من أهم العناصر التي تستغلها إسرائيل، فإن على الرغم من أن الظاهر يدل على التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين دولة في المنطقة وإسرائيل، إلا أن هدف إسرائيل من ذلك هو زيادة نفوذها بغطاء سياسي لا أكثر، ولذلك فإن إسرائيل المستفيد الوحيد من اتفاقيات التطبيع التي وقعتها في المنطقة، أما بقية الدول فإنها غير مستفيدة من الأساس، بل ربما عاد عليها ذلك بالضرر، وعلى الرغم من أنها قرارات سيادية تتخذها كل دولة، إلا أنها في الصورة الكبرى لا تقف حدود تأثيراتها على الدول التي اتخذت هذا القرار، بل يؤثر على الدول الأخرى التي تشاركها الحدود، وبالتالي يصبح الأمر أكثر تعقيدًا والتغلغل الإسرائيلي أكثر عمقًا، فكيف يُمكن حماية حدود دولة غير مطبعة من دخول إسرائيلي حصل على جنسية الدولة المطبعة فأصبح مواطنًا ينطبق عليه ما ينطبق على المواطنين الآخرين؟ وهذه مسألة بسيطة واحدة، والمسائل تكثر، وهكذا تحاول إسرائيل بالنحت على الصخر أو بالشرب من البحر أن تخترق مجتمعاتنا العربية ثقافيًّا، فإن كنا الآن رافضين لكل ما يحدث وساخطين، إلا أننا يُمكن في مرحلة قادمة أن نصبح راضين إن لم ننتبه الآن لهذه المسائل ونبدأ بتفكيكها معرفيًّا ومحاولة مقاومتها نفسيًّا أولا وثقافيا ثانيًّا.
إن إسرائيل مشروع مفتوح على الجغرافيا، فأين ما يجد له موضع قدم يضعها، وتصبح حدوده هناك، وهي تشبه بذلك إمبراطوريات العصور القديمة، أو فاشية القرن العشرين، لكنها أسوأ منها وأكثر عنجهية وبربرية منها بكثير، فقد جمعت كل مساوئ الدول الاستعمارية والفاشية وشكلت بها دولتها، وفوق ذلك ما تزال تأخذ أموالهم، وكثير من أموال منطقتنا العربية. لن تتوقف إسرائيل عن القتل وعن التوسع، فإن سكتنا لم يكن بعيدًا أن نكون ضحيتها التالية، وإن سكتنا اليوم، ربما لن نجد فرصة للكتابة والحديث غدًا.