قبل خمسة أشهر، كنت في مهمة طبية في شمال غزة، وهناك التقيتُ طبيب القلب الفلسطيني مروان سلطان، الذي أخذني في جولة داخل ما تبقى من مستشفى إندونيسيا، وهو مركز يضم 100 سرير، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد قصفته وداهمته.

كانت جدران المبنى مثقوبة بشظايا القذائف، وممراته مظلمة تغصّ بالحطام، والريح الباردة تتسلل من نوافذه المحطمة. سلطان، الذي كان يدير المستشفى، ارتدى معطفًا أبيض طويلًا وربطة عنق ونظارات مستطيلة. أشار بيده إلى مولدات الكهرباء المعطلة، وقال: إن غرف العمليات تُرمم حاليًا، لكنها بلا تخدير.

كان ودودًا في حديثه، لكن علامات الإنهاك بدت واضحة على وجهه بعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل.

صورتُ بهاتفي المحمول مشهدًا لمجموعة من أجهزة الغسيل الكلوي وقد تهشّمت شاشاتها. وفي الطابق العلوي، في قسم العناية المركزة، أشار إلى عدد من الأجهزة الأخرى وقد أصيبت بالرصاص.

هزّ رأسه بصمت، ورفع راحتيه إلى السماء، وكأن الكلمات خانته.

حين نقلتُ هذه المشاهد في مقال نشرته في أبريل، سألتُ جيش الاحتلال عن الأمر، فأجاب متحدث باسمه: «الادعاءات بأن الجيش الإسرائيلي يستهدف المعدات الطبية بشكل متعمد عارية تمامًا من الصحة».

لاحقًا، ألقيتُ محاضرة تحدّثتُ فيها عمّا رأيت. قلت إنني لم أفهم أبدًا كيف يمكن لتدمير أجهزة طبية أن يخدم هدفًا عسكريًا. فجهاز الغسيل الكلوي ليس سلاحًا.

حينها، رفع أحد الحاضرين يده وسألني: «كم يمكن لمريض الغسيل الكلوي أن يعيش من دون جهازه؟»

أجبته: أيام، وربما أسابيع.

قال بهدوء: «أظن أن هذه هي الطريقة التي يتحوّل بها جهاز الغسيل الكلوي إلى سلاح».

في ظهر يوم الثاني من يوليو، قُتل الدكتور مروان سلطان بصاروخ إسرائيلي، مع زوجته، وابنته، وشقيقته، وابنة شقيقته، وصهره. كانوا نازحين من منزلهم، ويقيمون في شقة سكنية متعددة الطوابق قرب شاطئ البحر.

قالت ابنته الناجية، لـُبنى: إن «الصاروخ سقط على الغرفة التي كان فيها والدي، تمامًا عليه، وبشكل دقيق». وأضافت أن بقية الشقة كانت سليمة. تُظهر الصور وجود فجوة ضخمة في موقع القصف.

سألتُ جيش الاحتلال عن الواقعة، فادعى، دون تقديم دليل، أنه استهدف «عنصرًا بارزًا في حماس». ولم يجب إن كان سلطان هو المستهدف. وأضاف البيان: «يأسف الجيش لأي ضرر يصيب المدنيين غير الضالعين، ويتخذ كل ما يمكن من احتياطات لتقليل الأذى».

لكن عائلة سلطان تؤكد أنه لم يكن ينتمي لأي جهة سياسية. وقال ابنه أحمد، البالغ من العمر 17 عامًا، لقناة (إن. بي. سي): «والدي لم يكن سوى طبيب. إنسان يعالج المرضى فحسب».

كان سلطان أستاذًا للطب في الجامعة الإسلامية في غزة، وأحد آخر أطباء القلب في شمال القطاع. وصف زملاؤه مقتله بأنه كارثة على المجتمع الطبي، خصوصًا بالنسبة للمتدربين الذين يواصلون العمل في المستشفيات القليلة المتبقية.

قال لي الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة: «إنه فقدان كبير لنا»، مضيفًا: «لا أستوعب حتى الآن أنه رحل».

حين زرته في فبراير، كانت هناك بارقة أمل. كان القطاع في حالة هدنة، والمساعدات تتدفق. رأيت طاولات ممتلئة بالفواكه والخضروات الطازجة، وأطفالًا يلعبون في الشوارع، وآخرين يتأرجحون على أسلاك الكهرباء المقطوعة.

في مستودعات غزة، كانت الحصص الغذائية توزّع بهدوء وكفاءة.

قال لي سلطان يومها: «نأمل أن تكون هذه نهاية الحرب، لنبدأ بإعادة بناء المستشفى». لكن بعد شهر واحد، منعت إسرائيل دخول المساعدات مجددًا.

وفي 18 مارس، أعلنت انتهاء الهدنة واستأنفت عملياتها العسكرية. وفي أبريل، قُتل زميل سلطان، الطبيب المصري المتطوع محمود أبو أمشة، البالغ 27 عامًا، في غارة جوية.

كتب لي سلطان حينها: «لا أنام بسبب القصف الليلي»، وأضاف: «افتقدنا زميلًا شجاعًا... الطواقم الطبية تعاني كثيرًا».

بعدها بأسابيع، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن مستشفى إندونيسيا «خرج عن الخدمة بسبب استمرار الانتشار العسكري»، وأن أحد أفراده قُتل، وأُجلي معظم المرضى. وأُعيد تدمير المولدات التي كانت قيد الإصلاح.

في المقابل، اتهم الجيش الإسرائيلي حماس بـ«استخدام المستشفيات لأغراض عسكرية». وقال: إنه «يعمل وفق الضرورات العسكرية وبما يتوافق مع القانون الدولي». قال الدكتور البرش: إنه توسّل سلطان مثل طفل يتوسّل والديه أن يرحل، لكن سلطان رفض.. وأراد البقاء إلى جانب مرضاه.

ويعتقد البرش أن استهداف سلطان كان مقصودًا بسبب مكانته في النظام الصحي، فرواتبه، مثل كثيرين من زملائه، كانت تُصرف من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لا من حماس.

ووصفه أحد زملائه في المستشفى بـ«الرجل النقي... بلا غبار»، بحسب التعبير العربي. وقالت طالبة طب شابة عرفتها خلال زيارتي: «استهدفوه لأنه إنسان، لأنه طيب، وكل غزة تعرفه».

وفي حين قال الجيش الإسرائيلي: إنه «لا يستهدف الطواقم الطبية»، ذكرت منظمة «مراقبة العاملين الصحيين»، وهي منظمة فلسطينية غير حكومية ورد ذكرها في تقارير طبية دولية، أن سلطان هو العامل الصحي رقم 70 الذي يُقتل في غزة خلال 50 يومًا فقط. ووصفت مقتله بأنه «جزء من نمط متكرر». وقالت: إن الجيش الإسرائيلي قتل أو اعتقل مديرًا واحدًا على الأقل من كل مستشفى في شمال غزة.

وبحسب وزارة الصحة، فإن أكثر من 57 ألف فلسطيني قُتلوا في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، بينهم أكثر من 1500 من العاملين في المجال الصحي: مئتا طبيب، 70 منهم من كبار المتخصصين، و180 صيدليًا، و220 مسعفًا، إضافة إلى مئات الممرضين والعاملين الإداريين.

وفي هذا الشهر، بينما كانت مفاوضات وقف إطلاق النار تُعقد في قطر، توجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن للقاء الرئيس دونالد ترامب، وفاجأه بإعلانه أنه رشّحه رسميًا لجائزة نوبل للسلام، الجائزة التي سعى ترامب لنيلها لسنوات.

وبغض النظر عن استحقاقه، فإن ترامب يمتلك مفتاح القرار، بوصفه حليف إسرائيل الأكبر ومصدر معظم أسلحتها، ولديه القدرة على إيقاف هذا الدمار.

حينما اصطحبني سلطان في جولة بمستشفاه المدمر، كان صدى المطارق يملأ الأروقة، حيث كان العمال يسابقون الزمن لإصلاح ما يمكن إصلاحه. وكان متحمسًا ليخبرني أن قسم الطوارئ أعيد افتتاحه بالكامل قبل يوم واحد من وصولي، لكن التعب كان واضحًا على وجهه.

ظلّ يعدد أسماء زملائه الذين قُتلوا.

قال لي بصوتٍ مكسور: «تشتاق لزملائك... بعضهم قُتل، وبعضهم اعتُقل. ولأجل ماذا؟ لأنهم فقط... كانوا يؤدون عملهم».

كليتون دالتون طبيب طوارئ، يعيش ويعمل في ولاية نيو مكسيكو الأمريكية.

الترجمة عن مجلة: ذَا نيويوركار