دقيقة أو دقيقتان ويصل ابناي إلى المتنزه المجاور، ولكنهما دقيقتان حاسمتان فليس ثمّة مسار أو رصيف مُهيأ لدراجتيهما الهوائيتين. في البداية دأبتُ على مرافقتهما. وعندما صار المتنزه الصغير ملجأهما الصيفي يوميا، بدأتُ أقلل من ذهابي، إلا أن ذلك لم يكن ليوقف شحوبي وخفقان قلبي!

في المتنزه يلعبُ المراهقون كرة القدم، يُسدّدون ركلاتهم بأقصى ما يستطيعون، فتنجو رؤوس الأطفال المجاورين على الأراجيح والزحاليق بمعجزة إلهية!

يشيرُ يان جيل في كتابه «مدنٌ للناس» الذي تحدثنا عنه من قبل، إلى ما ينبغي أن تتحلى به المدينة من أجل الأطفال والمعوقين وكبار السن واليافعين وحتى الشباب، مدينة تصادقُ أبناءها برصيف واسع للمشاة والدراجات، مدينة تكتسبُ حواف فضاءاتها العامّة جاذبية مثالية، حتى يتمكنوا من السير دون عناء، ويتمكنوا من تغيير الاتجاه، والمناورة، وزيادة السرعة أو الإبطاء، أو الذهاب لنشاط مُغاير لذلك الذي خُطط له، باعتبار المدينة ميدانا شاسعا للنشاط الاجتماعي والثقافي. مدينة تفترضُ أنّ المشي أكثر من مجرد فعل تنقل، فهو بداية مُحتملة لشيء مُغاير مع البشر والأمكنة.

في المتنزه المجاور لبيتي أشعرُ بأنّي طارئة على المكان، فلا مقعد أجلس عليه، بينما يرى جيل أهمية كبيرة للمقاعد، كونها جاذبة للخروج والتأمل، أو التحدث. تحايلتْ جاراتي على الأمر، أحضرن حصيرة مكنتهن من أن يتجاورن ويتبادلن الطعام والقهوة. بدا الأمر صورة مُستعادة من قلب القرية! وكأنّ الحدود بين مدننا وقُرانا شديدة الاختراق والتماهي!

أتذكرُ أيضا وبينما كنتُ وزملائي في اجتماع عمل، بادر أحدهم بالسؤال عن المطر الذي هطل منذ أيام، فبدا لافتا حقا أننا ودون أدنى تردد تحدثنا عن مطر قُرانا، رغم أنّنا نقطنُ جميعا في مسقط، كما أننا لم نكن هنالك لحظة الهطول أصلا.. فما الذي يجعلنا لا نذوب في نسيج المدينة؟ ما الذي يجعلنا نكابدُ شعورا غامضا بأننا طارئون عليها؟

يدعو يان جيل إلى مدن تكون على مستوى العين، مدنٌ تحفزُ المشترك الإنساني عبر الأنشطة المرتبطة بالجانب الحسي، وتشجعُ على أن يكون حيز التجارب فيها متاحا بقدر ما هو محميٌ أيضا، بحيث لا تضر التجارب البصرية خصوصية الأفراد. وقد انتقد الواجهات المُغلقة والنوافذ المخفية! وهنا تذكرتُ تعجبي الأزلي من تدفقُ شلالات الشمس الهائلة على أسطح مُدننا، واضطرارنا لإشعال الأضواء في منازلنا وأماكن عملنا في ساعات النهار، بسبب أطنان الإسمنت التي قضت على التسلل الآمن لحركة الضوء ونسمة الهواء!

تفقدُ المدن أطرافها عندما يغيبُ الاستغلال الأمثل لساحاتها، وعندما يغيب ما يجعلها مفعمة بالنشاط: الماء والأشجار والزهور، والمساحة الكافية للفن المعماري. تفقدُ أطرافها عندما يغيبُ ما يدعونا للتوقف لبرهة من الزمن لتأمل شيء ما. ولذا فقد اقتيد اللعب واللهو الطفولي من أنفه الطويل إلى علب إسمنتية في المجمعات التجارية الكبيرة. هكذا يمضي العالم كله إلى لوحة تعليب صارمة ومضجرة في آن.

قد نظن أنّ خيار المشي والدراجات الهوائية خيار غير واقعي في حياتنا. رغم إدراكنا بوجود أشهر وأيام وساعات ملائمة لفعل ذلك، فيما لو توفرت البنى الأساسية. ولعلنا نمثل بتجربة مدينة نزوى، رغم أنّ «المسارات الخضراء» غير متوفرة فيها حتى اللحظة، «فمنح الأولوية للمركبات وإهمال المشاة والدراجات الهوائية أمرٌ كارثي لا محالة»!

تبعد مدرسة ابني عن بيتي خمس دقائق فقط مشيا على الأقدام، لكنه يركب حافلة المدرسة ككل أبناء جيراننا، فماذا لو كان ثمّة طريق لدراجاتهم، ومواقف مخصصة لهم في المدرسة؟ وطريقٌ مظللٌ بالأشجار؟ هل يبدو حُلما سرمديا؟ ليست محاولة لاستعارة ما لا يناسب بيئتنا، فالجانب الآخر من الكرة الأرضية، تقهره موجات البرد والعواصف والثلوج كما تقهرنا موجات الحر تماما!

على مخططي المدن النظر في فضاء المدينة البصري الجمالي جوار دورها الوظيفي كما يقول يان جيل، فلا مجال للشعور بالانتماء إلى مدينة ترتبُ أولياتها كالآتي: المباني أولا ثم حياة الناس!

إذ «ولسوء الطالع لا تزال المدن تُشيد وفقا لمبادئ بعثرة المقاس، ولذلك ثمة الكثير من المساحات تتسم بالفتور الإنساني».

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»