قاتل العرب أنفسهم أكثر مما قاتلوا إسرائيل. ولا يحتاج المؤرخ إلى إحصائيات وأرقام ليثبت أن المناسبات التي أقدَم فيها عربيٌ على قتل عربي آخر، على مدى ثمانية عقود منذ نكبة فلسطين، تفوق بأضعاف مجموع ما أوقعه العربُ أجمعين في صفوف من يفترض أنه عدوهم الطبيعي الأول، إسرائيل. لكن الحقيقة المُرة لا تتوقف عند حدود هذه المقارنة، بين مقدار نيلنا من أنفسها في مقابل نيلنا من العدو الخارجي الأكبر، إذ يمكن للحقيقة أن تُقرأ أيضًا بطريقة عكسية: فهل يمكننا أن نقارن أيضًا بين عدد الضحايا العرب بسلاح عدوهم الإسرائيلي، في مقابل ضحايا العرب المهدورين في تناحراتهم البينية مع بعضهم البعض؟! تبدو الإجابة محسومة ومخزية أمام الأحفاد، حتى لو لم نجرؤ على المجاهرة الصريحة بها خشيةً من توظيفها التبريري لمصلحة إسرائيل (من قبيل أن إسرائيل تبدو أكثر رأفةً بالعرب من أنفسهم) ولا سيما في زمن الإبادة المستمرة في غزة. مــهلًا! لا ينقص الجيش الإسرائيلي تبرير مجانيّ من هذا النوع، فطيَّاروه تحت سماواتنا وجنوده فوق أراضينا على يقين من أنفسهم بأنهم أكثر رأفة بالعرب من أنفسهم وأهاليهم.

«انظروا إلى العِبرة السورية»! هكذا يسخر الإعلام الإسرائيلي ويشمت من عربٍ لا يؤتمنون على أنفسهم ولا يفهمون إلا لغة القوة. وتتمادى السخرية الفاحشة لتبلغ حضيضها المُفجع حينما يتبجَّح ذبَّاح الفلسطينيين وجلاد العرب الأكبر فيقدم نفسه حاميًا للأقلية الدرزية من إرهاب الدولة ودولة الإرهاب! من يصدق هذا الزمان؟! ومن يصدّق أن هذه هي سوريا الجديدة، وأن فيها من يؤمن حقًا بأن الحل لمأساتها الداخلية لا يبدأ إلا من تل أبيب، حيث يمكن للعدو أن يتبرع بوقته فيكون محضر خير بين مكونات الشعب السوري؟!

تذكرتُ مشهدين: الأول من الأرشيف الإسرائيلي إبان معارك جرش وعجلون في أعقاب «أيلول الأسود»، مشهد لمقاومين فلسطينيين يسلمون أنفسهم للجيش الإسرائيلي تفاديًا للوقوع في قبضة الجيش الأردني «الشقيق». أما المشهد الثاني فتوثقه كاميرا صحفي أجنبي لسيدة وابنتها تستجيران بضابط إسرائيلي خوفًا من مقاتلي حزب الكتائب في أيام مجزرة صبرا وشاتيلا.

بلى، إن القوة فتنة. القوة الخاطفة لإسرائيل منذ حرب 1967 هي سرُّ افتتان اليمين العالمي، افتتان يُضمره حتى أشد المعادين للسامية في الغرب، وهي قطعًا مثار افتتان خاص لدى الأصولية الإسلاموية وما تفرَّع عنها من سلفيات جهادية. أما المعجبون بإسرائيل من نخب العُرب فمذاهبُ وأطياف؛ وشِعار «إسرائيل حلًا» هو موضتهم التطبيعية الجديدة.

الحروب الأهلية في بلادنا، بمضمونها الطائفي، حتى وإن استندت إلى تعقيدات عرقية ورواسب داخلية محضة، وإلى سوابق متوارثة ومحفورة في طبقات دفينة من ذكراتها الإنثروبولجية، إلا أن مستوياتها الخارقة والمذهلة في التعنيف، من حيث الكم والأسلوب، تكشف على نحو ما عن «حروب تفريغ» يمارسها المعذَّبون على بعضهم تحت سياط معذِّبهم الأكبر (المستعمر الإسرائيلي).

حروب التفريغ، التعبير الذي اقترحُه لوصف دوامة العنف الأهلي في بلادنا، وتحديدًا في دول الطوق، هو إعادة تصريف لمفهوم «حروب التعذيب» الذي صاغه ياسين الحاج صالح في وصف طبيعة الحروب التي تشنها إسرائيل على محيطها العربي (راجع مقالته «في العنف» على موقع «الجمهورية»، وكذلك «اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية»). فمستوى التدمير والعنف المُكال على تلك البلدان، في غزة ولبنان واليمن وسوريا، دون أدنى نسبة من التكافؤ أو العدالة في تقنيات الحرب والقدرة العسكرية، يجعل من تلك الحروب ضربًا من ضروب التعذيب الذي يرسم العلاقة بين السياط والسجين.

الدم العربي السائب والسهل بين العرب أنفسهم، في السويداء، وقبلها في الساحل السوري وفي كنيسة مار الياس بدمشق، يُموّل سير الإبادة في غزة، ويُسبغ عليها ما ينقصها من تطبيع بصري وسياسي يمدد سريانها.

الإبادة تتفرَّع، تفتح شهية الدم الأخوي، وتغري بالتقليد في مجتمعات مرضوضة باستبداد الدولة منذ عقود، مجتمعات متفانية في الإفناء بأقصى ممكنات العنف المكبوت، و«تبشّر» بنزعة خارقة نحو التدمير الذاتي. وهي، من قبل ومن بعد، مجتمعات محتقنةٌ بعجزها عن مواجهة العدو الشامل والمطلق متمثلًا في «إسرائيل»، تمتصُّ عنف الطيران الإسرائيلي المصبوب عليها فتوزعه داخليًا، في تعنيف داخلي يعيد إنتاج سلوك نظام البعث السابق، المعنَّف من إسرائيل والنظام الدولي.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني