تحكي الكاتبة فوزية بنت علي الفهدية في روايتها "صانع الفخّار" قصة صانع يتأمّلُ ذاته من خلال حرفته باحثًا عن المعنى فيما حوله، خالقًا حكايات للآنيّات الفخارية الّتي يصنعها أو تلك الّتي يقتنيها كتحف لمتحف البلدة. بطل الرواية، صانع الفخّار، يتجوّل بنا عبر رحلته في مجموعة من التساؤلات والتأملات الّتي يكون فيها الفخار رمزًا لمجموعة من المفاهيم مثل الخلق والهُويّة، المادة والمعنى، القدر والإرادة، المكان. في هذه السطور، محاولة لقراءة هذه المعاني في الرواية.

صانع الفخّار الّذي قضى عمرَه، هو وعائلته في تاريخها، في خلق آنيّات وأشكال متنوعة من الفخّار، ينعكسُ ذلك على حياته فيحاول خلق قدَره من خلال اتّباع السؤال الّذي يؤرّقه في معرفة سرّ شعوره بالتشابه مع الفخّار الّذي يصنعه، يدفعُه شعور بعدم الرغبة في التكرار الدّال على الركود وضرورة التحرك والتغيير والسعي نحو البحث عن معناه في الحياة عبر مجموعة تساؤلات تُصاحبُه عبر مراحل صناعة الفخار وتقودُه إلى خارج بلده في رحلة تخيليّة معنويّة أكثر منها واقعية لينتهي به الحال إلى التّوصّل إلى خلق حكايتِه المنفردة بمعناه الخاصّ لكن عبر التّوحّد مع أصله، حرفته وبيئته وتاريخه.

"فمن أكون؟ أنا القابع من خلف الدولاب، وقد ألصقت يداي بعجينة المدر، من أكون؟" (ص65)، بدأت الرحلة بالسؤال الّذي جرَّ أسئلةً أخرى وراءه، أسئلة أوصلته إلى ذاته. وكأنها تقول أنّ بوسع السؤال أن يحملك نحو أي رحلة وأي طريق تبتغيه دون الحاجة للارتحال الفعلي من مكانك، "للسؤال أن يكون مادة حياة" (ص72). تبدأ الرحلة بخوف وجهل يواجهه بطل الرواية بشجاعة وفضول ورغبة في الوصول. يُواجه في طريقه تحدّيات تختبر صدقه وشجاعته ويواجه مخاوفه وشكوكه، ومكافآت تُقوّي عزمه وتُثبّته على طريقه وكأنّها رسالة لأهمية الأخذ والعطاء في رحلة الحياة للاتّزان فيها. يحاولُ تقصّي الحكمة في كل خطواته، وكأنّه يقول أنّ الرحلة ليست فقط في السفر إلى أماكن جديدة؛ الرحلة تبدأ من الداخل: الذات، الأصل، الأسرة، الحرفة، البلد، التاريخ، الأماكن الّتي اعتادها.

في تشكّل الإنسان وذاته يُشبّهه بالفخار المكتمل الصنع يبدأ صغيرًا كعجينة المدر تُشكّله الحياة لينتهي مكتمل الهُوية. يخلق الخزّاف آنيات من فخار يتعهّدُ كلًا منها بالعناية منذ أول المراحل، ويتعهّدُ كلًا منها بقصّة خاصة بها تندلق عليه لوحدها وهو منغمس في صنعها. فيمزج فيها روحه كما امتزج خلق الإنسان "بروح الله، لنكون نحن"(ص٧٠). والاختلاف في القياسات يؤدّي إلى اختلاف في الآنيّات الفخارية بحيث تتميز كل واحدة عن غيرها في تشبيه باختلاف البشر في هُويّاتهم ما يميّزهم عن بعضهم البعض رغم تشابههم. يبدأُ الخلق منذ بدء جمعه للطينة الحجرية الّتي تُمثّل ضرورة التخطيط الجيد بحمل الأدوات اللازمة وتقدير ما يستطيع حمله حتى يستطيع العودة إلى مصنعه للإنتاج. حرق الفخار وهبوب الريح، الّتي تؤدّي إلى يباس الخزف الفخارية، يُشبه الدروس القاسية من الحياة التي يتعلمها الفرد عبر الخبرات والتجارب القاسية، "ليصنع بعدها حكايته"(ص٣٧) بقوة وثبات. والريح أيضًا هنا رمز إلى القدر الّذي لا يملك الفرد تغيير مجراه ولا يعرف ما الّذي يأتي به من أحداث تُغيّر حياته و تُسيّرها إلى الطريق الّتي لا يملك اختيارًا فيها.

وفي إشارة الأواني المكسورة، يُمكن أن نرى الضعف والنقص في الطبيعة البشريّة برغم المحاولات للوصول إلى الكمال، وفيها إشارة أيضًا إلى الجمال الكامن في هذا الضعف؛ أدّت هذه الأواني في الماضي أدوراها الّتي عليها وظلّت ذكراها عبر الأزمان لتؤدّي دورًا آخر في انكسارها وهو الحكي عن الماضي. في فقدانها لأجزاء منها دلالة على الحياة الّتي عاشتها.

البحث عن الهُوية لا يكون فقط عبر استنطاق المعنى من حرفته، الّتي يُعاملها كطقس مقدّس تأمّلي يندمجُ كعاشق هائم في كلّ تفاصيلها: الطين، الألوان، الروائح، الأصوات، الأشكال، الحكايات المُرتبطة بصنعها: "أنا أسمع صوتها من قبل أن تتشكل، لها همس يشبه حفيف الهواء، وهو ينسلُّ من بين النوافذ الصغيرة والمُرُق"(ص٤١)، بل أيضًا عبر بيئة هذه الحرفة، حيثُ يُنقّب في المكان عن المعنى، بحثًا عن نفسه. يتأمّل المكان ويستمع إلى حكاياته وكيف تتقاطع وتختلف مع دواخله وطرقه. يأخذنا عبر عيونه المُحبّة، في طرقِ بهلا، نتأمّل البلدة وأماكنها المعتادة، وطينها. يُرينا أنّ الوصول إلى عمق وجمال المكان لا يكون إلا باستكشاف خفاياه. يُصوّر الأماكن الّتي تبدو وديعة بسيطة عاديّة وجافّة في أحيانٍ كثيرة لا أثر لمختلفٍ فيها ولا لمُثير لفضول، تلك الّتي لا تمنح نفسها إلا لمن يقترب بنيّة صادقة للاكتشاف. وهنا دعوة إلى الصبر أيضًا: الصبر للوصول إلى المُبتغى؛ تلك البلدات بصعوبة تضاريسها وتاريخها وحكاياتها وتقلّبات الزمن عليها تُعلّمُ الصبر، الّذي ربما اكتسبه صانع الفخّار منها.

رواية قصيرة فيها دعوة إلى التأمل في معاني تفاصيل ما يُحيطك من أشياء والسعي في اتّجاه فضولك بامتنان لكلِّ ما تُقابله في طريقك. صانع الفخّار الّذي ما استسلم لفكرة الثبات وسار في طريق تساؤلاته بشجاعة محاولًا بثّ الحياة في حرفته القديمة والّتي فقدت أهميتها في أعين الناس الّذين باتوا ينظرون إليها كتراث جامد يُستخدم للزينة فقط والتفاخر بالماضي. عبر هذه الرواية تحاول الفهدية إعادة توجيه النظر إلى الفخار كقيمة معنويّة مُرتبطة بجوهر الإنسان وسعيه.