يأتي موسم الحصاد والمزارع العماني التقليدي ما يزال في حيرته ومأزقه منذ بداية دخول الحداثة في السبعينيات. هكذا في موسم الحصاد السنوي الذي يوافق هذه الفترة من السنة لن نسمع أغاني الحصاد تتردد بين الحقول والبساتين العمانية، ولعلها نسيت واندثرت ولم يعد يرددها أحد بعد أن كانت ملء الأسماع، وظلت لقرون تتردد بين الحقول والمزارع التقليدية خاصة في الأعمال التي تتطلب الجهود الجماعية، وبدل ذلك ما نسمعه من المزارعين هذه الأيام هو شكواهم المستمرة.

ولا شك أن هذه الشكوى صادقة، وأنها لا تخص المزارعين وحدهم بقدر ما تخص وتمس الاقتصاد الوطني ومستقبله الذي من الواضح أن الحكومة الحالية توليه اهتمامها وعنايتها، لكن ذلك الاهتمام لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستثني الزراعة التقليدية من حيث إنها مجرد رمز تراثي، بل من حيث كونها فاعلا اقتصاديا حقيقيا، وأمنا غذائيا موروثا، وثروة وطنية.

كلنا نعلم ما شكلته النخلة العمانية من عماد رئيسي للحياة على هذه الأرض في السهل والجبل والواحات حتى السواحل، وإلى أي مدى كان إسهامها الفعال في منظومة الأمن الغذائي عبر قرون. وظلت النخلة هي المرتكز الرئيسي لقطاع الفلاحة العمانية، بل بفضلها أُسست القرى والبلدات والمدن العمانية المختلفة. وكانت هي المطلب الثاني لدى السكان بعد الماء، وليس هذا في عمان فحسب، بل في كامل الجزيرة العربية وصولًا إلى العراق، وإلى الضفة الأخرى في فارس والسند، فهذه هي المواطن الطبيعية لهذه الشجرة الفريدة التي يعدها العرب أشرف الشجر، كما قال المعري وهو القادم من معرة النعمان في الشام حيث يندر وجود النخل حين سمع صوت نهر دجلة: وردنا ماء دجلة خيرَ ماءٍ وزرنا أشرف الشجر النخيلا.

مع ذلك يشهد إنتاج النخيل -وهي عماد الزراعة التقليدية- تقهقرًا شديدًا يكاد يخرج إنتاجها من المنظومة الاقتصادية خاصة مع منافسة التمور المستوردة التي تكاد تغرق الأسواق المحلية دون أدنى تأثير لكثرة العرض من التمور العمانية في معادلة اقتصادية مقلوبة رأسًا على عقب لا نجدها إلا في المنتجات الزراعية معنا.

أما المزارع نفسه فمهموم بارتفاع التكاليف وقلة المردود، وحتى ذلك المردود لا يكفي لتغطية أجور الأيدي العاملة فضلًا عن أن يشكل مصدر دخل يعتمد عليه؛ ولذلك يلجأ المزارعون عادة لزراعة أصناف أخرى تتوجه لسوق الأعلاف مثل البرسيم والحشائش، أو الثمار الموسمية كالجح والبطيخ، وكثير من المزارعين توجهوا لزراعات البيوت المحمية كالخيار. لكن كل ذلك يتماشى والمزارع المفتوحة ذات المساحات الأكبر والتي تعتمد على الري بالآبار وبالمعدات الكهربائية. أما الزراعة التقليدية فتبدو لأسباب هيكلية كثيرة خارج ذلك النوع من المنافسة، ولا سبيل لها غير الاعتماد على الإنتاج التقليدي للتمور؛ لكثرة نتاجه رغم قلة المساحات. أما بقية الفواكه فهي عاجزة عن مجاراة إنتاج المزارع التجارية المتخصصة.

وبينما تشهد منتجات التمور وثمار النخيل في البلدان المجاورة نشاطًا اقتصاديًا ومهرجانات سنوية يصل أثرها إلى أسواقنا؛ فإن الوضع العماني للنخلة وضع محزن -خاصة للفلاحين-؛ ذلك أن تأثيرات الحداثة، وتدفق النفط غيرت المنظومات الاقتصادية التقليدية، وجعلت جل الاعتماد على النفط والغاز ومشتقاتهما، وهي المملوكة للدولة؛ وبالتالي تغيرت المنظومة التقليدية، وانكسرت سلاسل التوريد في القطاع الزراعي. وبعد أن كان الاقتصاد الوطني جل اعتماده على المنتجات الزراعية -خاصة النخيل، ومعها الليمون المجفف المشتهر- أصبحت عمان تستورد تلك المنتجات حتى صار من الطبيعي أن يجد المرء في مراكز التسوق أصنافًا عديدة مستوردة منها. ويكاد يندثر الليمون العماني المجفف، إن لم يكن اندثر فعلًا؛ فلا يجد المرء في الأسواق الليمون المجفف العماني أو الصحاري، بل يجد بدلًا الليمون المجفف المستورد من بلدان مثل الصومال.

أما التمر فلا يعرف المزارعون ماذا يفعلون بمحاصيلهم الوفيرة منه غير تصريفها كيفما اتفق، أو استهلاكها.

أما الأمبا العماني فيكفي أن يمضي المرء بسيارته في الشوارع العامة في مسقط أو خط الباطنة القديم ليرى الشباب العماني متوزعين على الأرصفة بسياراتهم في محاولات تسويقه لأصحاب السيارات، أو يصادفه المتسوق أحيانًا في الأسواق الشعبية التي تكاد تندثر هي الأخرى في المناداة الصباحية عليه، أو مع بعض التجار الذين يحرصون على جلبه وتوفيره للزبائن، وذلك في مدد قصيرة من السنة. أما ما عدا ذلك فالوفرة للمنتجات الزراعية المستوردة وللأمبا من بلدان اليمن أو الهند أو باكستان أو حتى مصر أو أفريقيا. أما الأمبا العماني فهو في المؤخرة، وحين يكون الأمبا العماني متوفرًا تجد الأسعار تنزل نزولًا مريبًا، ويجري إغراق الأسواق بأنواع رديئة من الأمبا الباكستاني خاصة، وكأن المضاربين يتعمدون التلاعب بالأسواق في تلك الفترة بالذات.

إن كل ذلك يشكل مشكلة اقتصادية وطنية، وعبئًا حقيقيًا يدفع المزارعون ثمنه خسارة مستمرة، خاصة المزارع التقليدي؛ فبعد أن كانت تلك المزارع تشكل في وقت ما أقصى ما يطمح له الناس من الأموال والأمان الاقتصادي يجد أصحابها أنفسهم اليوم خارج الطلب حتى تحولت كثير من البساتين في كثير من البلدان لبيوت سكنية؛ إذ أصبحت قيمة الأرض أعلى من قيمة المزروعات، وأصبح المزارع العماني التقليدي يعتمد على مداخيله الأخرى للحفاظ على ما تبقى من مزارعهم ربما بدافع الوفاء والحنين لا أكثر؛ فغالبية المزارعين التقليديين اليوم يجنون من مزارعهم أقل مما يكفي لتغطية نصف رواتب الأيدي العاملة السنوية، فضلًا عن المصاريف الأخرى المترتبة عليهم.

في الثمانينيات كانت لدينا هيئة تسويق المنتجات الزراعية قبل أن يتم حلها. ومع أنها لم تكن بتلك الفعالية الحقيقية على الأرض؛ فإنها كانت تبعث أملًا بتطورها، وانتشار مراكزها المختلفة في مختلف الولايات حتى يتوجه المزارعون إليها بمنتجاتهم الزراعية، وتقوم هي بدورها بتعليبها، وتسويقها بشكل يتناسب وأنماط الحياة الحديثة. لكن ذلك الأمل تبخر، ولا يجد المزارع التقليدي اليوم منفذ بيع غير الأسواق الشعبية لتسويق منتجاته. وتلك الأسواق نفسها تتعرض للتآكل والمنافسة المحمومة من مراكز التسوق الضخمة والمولات والمحلات المنتشرة بطول الشوارع في كل مكان، حتى تغير نمط الشراء، وأصبح المستهلكون يتجهون أول ما يتجهون لتلك الوجهات الحديثة، بينما تتآكل الأسواق الشعبية وتكاد تندثر لأسباب كثيرة منها التخطيط بلا شك، لكن هذا موضوع آخر.

يحدث كل هذا بينما تعمل شركة تنمية نخيل عمان لتنفيذ خطة الحكومة لزراعة مليون نخلة إضافية، وهي ذات ملكية حكومية خاصة، بينما يتساءل المزارعون التقليديون: أين يذهبون بمنتجات المليون الأول الذي ورثوه؟ وفي الواقع أنه حان الوقت لإدخال هذا الإنتاج الزراعي شبه المهدر والمهدد بمشكلات كثيرة لا تنحصر في الجفاف والآفات الزراعية فحسب، بل كذلك وأساسًا في الوصول المباشر والسهل للأسواق ومنافذ البيع، وللصناعة الحديثة؛ بحيث يواكب الطلب حجم العرض من هذه المنتجات التمور، وهو ما سيسهم بدوره في إيقاف استنزاف الاقتصاد الوطني المرهق من الاعتماد المفرط على الاستيراد. وهناك تجارب مبشرة لباحثين عمانيين في هذا المجال خاصة في الصناعة الغذائية، ورغم أنها ما زالت مع الأسف محدودة الأثر إلا أنها تدلنا على الاتجاه الصحيح الذي علينا اتخاذه؛ للحفاظ بشكل عملي على هذه الثروات الوطنية المهدرة.

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني