**media[3074993]**

(1)

لعل الأحداث الجارية في سوريا الشقيقة، وما تشهده من أحداث عنف مؤسفة، خاصة في مدينة السويداء جنوب سوريا، على خلفية مواجهات طائفية بين سكان تلك المدينة من الدروز والعشائر البدوية على أطراف المدينة، جعل من هذه الطائفة محل اهتمام برز على السطح لمزيد من الفهم والمعرفة حول هذه الطائفة الدينية ذات الخصوصية العرقية والجغرافية والتاريخية والعقدية..

يمثل "الدروز" وفقًا للمراجع التاريخية الموثقة أحد عناصر السكان الرئيسية في بلاد الشام (سوريا ولبنان) وجذورهم التاريخية تعود إلى فترة حكم الفاطميين لمصر في القرن الرابع الهجري، وبالتحديد لفترة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. وعلى الرغم من مشاركتهم في الحرب ضد الصليبيين، -كما يقول المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم- إلا أنهم عاشوا حياة أقرب إلى العزلة والانغلاق جعلتهم نهبًا لكثير من الأقاويل والروايات المثيرة، وقد تحدث المؤرخون الصليبيون، والرحالة الذين زاروا بلاد الشام زمن الحروب الصليبية عن مدى تعدد أجناس السكان في هذه البلاد. وكان أول من تنبه إلى هذه الحقيقة هو فوشيه دي شارتر الذي رافق أحد جيوش الحملة الصليبية الأولى.

(2)

وقد أدت الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة السويداء بسوريا الشقيقة؛ إلى بحث الكثيرين عن تاريخ وخصوصية أبناء هذه المدينة من طائفة الدروز (أو الموحدين كما يطلقون على أنفسهم)، وهي طائفة ذات طبيعة خاصة، يغلفها الكثير من الغموض والأسرار؛ ذلك أنها تصنف ضمن طوائف الشيعة الباطنية؛ بكل ما تنطوي عليه من استتار وحجب وقصر المعرفة الدينية على الزعماء الروحيين الذين يطلقون عليهم "شيوخ عقل".

في وسط هذه الأجواء، أعلنت دار المعارف المصرية عن قرب صدور الكتاب المرجعي النادر «طائفة الدروز ـ تاريخهم وعقائدهم»، والذي صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف في مطالع ستينيات القرن الماضي (1962)، ليجلي شيئًا من هذا الغموض، حول هذه الطائفة، ويقدم دراسة دقيقة وموثقة عن تاريخ هذه الطائفة وعقائدها، استنادًا إلى خبرة المؤلف الواسعة والعميقة ببحث تاريخ المذاهب الشيعية الباطنية، وعلى رحلاته الواسعة والمخطوطات النادرة التي لم يتيسر لغيره الحصول عليها..

يأتي هذا الكتاب الذي ألفه واحد من أكبر المتخصصين في أدب الفاطميين وعقائد الشيعة ومذاهبهم، بعنوان «طائفة الدروز ـ تاريخها وعقائدها»، للدكتور محمد كامل حسين، وهو أحد الباحثين العرب القلائل الذين تخصصوا في أدب مصر الإسلامية، ومنها تعمَّق تعمقًا كبيرًا وواسعًا في الدراسات الإسماعيلية، التي كان من آثارها رسالته المركزة المكثفة عن تاريخ الحركة الإسماعيلية، ونشرها في «مكتبة الدراسات التاريخية» بعنوان «طائفة الإسماعيلية ـ تاريخها نظمها عقائدها»، سنة 1959م، كما كان من آثارها أيضا ذلك الكتاب الذي نخصه بالحديث اليوم في (مرفأ قراءة) عن طائفة الدروز.

(3)

جزء كبير من قيمة الكتاب ومرجعيته وفرادته على صغر حجمه (يقع في 136 صفحة من القطع الكبير)؛ هو توفر مؤلفه الدكتور محمد كامل حسين على دراسة كل ما أمكنه الحصول عليه من مصادر ومخطوطات تتصل بتلك الفترة، وسافر إلى بلدان عديدة وخص جبل الشام في سوريا ولبنان بغالبية هذه الزيارات والرحلات، وبذل جهدا كبيرًا ومالًا وفيرا في سبيل الحصول على تلك "المخطوطات النادرة"، وقد ظفر منها بطائفة كبيرة نشر عددًا لا بأس منها في سلسلة ممتازة عنوانها (مخطوطات الفاطميين). عن ذلك يقول صديقه المؤرخ الكبير الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: "وقد استطاع الدكتور محمد كامل حسين بوسائل مختلفة -وله في ذلك قصص شائقة- استطاع أن يجمع لنفسه طائفة كبيرة من الكتب والرسائل المخطوطة في تاريخ الفرقة الإسماعيلية وما تفرع عنها، وعقائدها، قل بل ندر أن توافرت لغيره من الباحثين في هذا الحقل. وقد نشر من تلك المخطوطات طائفة كبيرة".

والدكتور محمد كامل حسين، لمن لا يعرفه، هو واحد من أنجب وأنبغ تلاميذ الدكتور طه حسين، وهو رائد وأستاذ الأدب المصري في العصور الإسلامية، وأحد القلائل من العلماء الأفذاذ الذين توفروا على دراسة الحقبة الفاطمية في مصر، والعقائد الباطنية، وتاريخ الإسماعيلية بالأخص، وإخراج ونشر وتحقيق نصوصها التراثية النادرة التي كان من الصعب جدا أن تتوافر للباحثين..

كما أنه أحد القلائل الذين ألفوا وكتبوا في تاريخ المذاهب والطوائف الإسلامية، ولم يكتب أحد مثل ما كتب عن طائفتي "الدروز" و"الإسماعيلية" و"الشيعة الباطنية" عموما.. وهذا غير تآليفه العظيمة في تاريخ الأدب المصري في العصور الإسلامية، وخصوصا العصر الفاطمي.

(4)

كانت هذه لمحة سريعة عن الكتاب ومؤلفه، وقيمتهما التاريخية والمرجعية.. فماذا عن محتوى الكتاب، على الأقل من جانبه التاريخي (قبل استعراض شيء من الجانب العقدي والأفكار والتصورات)؟

تفيدنا المصادر التي رجع إليها مؤلف الكتاب بأن الدعوة الإسماعيلية قد حققت نجاحات كبيرة في عصر الإمام الخليفة المعز لدين الله الفاطمي الذي نجح في ضم مصر للخلافة الفاطمية، وتأسيس دولة الفاطميين في مصر التي نمت وازدهرت وأسست حضارة ونهضة ثقافية واجتماعية كبيرة طبعت بطوابعها وسماتها كثيرا من عادات المصريين وممارساتهم الاحتفالية والطقسية حتى وقتنا هذا. ثم أمر قائد جيوشه جوهر الصقلي ببناء مدينة القاهرة

التي سرعان ما انتقل إليها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وجعلها مقرا للخلافة الفاطمية بداية من العام 362هـ/ 972م.

ثم تولى بعده ابنه العزيز بالله، ثم أشهر حكام الفاطميين على الإطلاق، الخليفة الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله، والذي عرف عنه الإغراق في الفلسفة الغنوصية -كما يقول الباحث والمؤرخ الشاب حسن حافظ- وقد استمع لأفكار بعض غلاة دعاة الإسماعيلية الإيرانيين، أمثال الحسن الأخرم وحمزة اللباد ومحمد بن إسماعيل الدرزي. والتي وصلت إلى ذروتها باعتناق فكرة ألوهية الحاكم بأمر الله. وهو الأمر الذي قاد إلى فوضى في القاهرة أعقبها قتل الحاكم بأمر الله، وتولى ابنه الخلافة باسم الظاهر لإعزاز دين الله، وهروب دعاة ألوهيته إلى بلاد الشام. حيث أعادوا تمركزهم هناك (سوريا ولبنان بالأخص)، وعرفوا هناك باسم الدروز، نسبة للداعي محمد الدرزي، وإن أطلقوا على أنفسهم اسم (الموحدين).

(5)

يعرف الكتاب الدروز بأنهم فرقة باطنية تؤلِّه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، أخذت جل عقائدها عن الشيعة الإسماعيلية الباطنية، وهي تنتسب إلى نشتكين الدرزي. نشأت في مصر أولا، لكنها لم تلبث أن هاجرت إلى بر الشام. وعقائدها خليط من عدة أديان وأفكار، كما أنها تؤمن بسرية أفكارها، فلا تنشرها على الناس، ولا تعلمها لأبنائها إلا إذا بلغوا سن الأربعين.

محور العقدية الدرزية هو الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي الملقب بالحاكم بأمر الله ولد سنة 375هـ/ 985م، وقتل سنة 411هـ/ 1021م. كان غريب الأطوار في فكره وسلوكه وتصرفاته، شديد القسوة والتناقض والحقد على الناس، أكثر من القتل والتعذيب دون أسباب تدعو إلى ذلك.

أما المؤسس الفعلي لهذه الطائفة فهو: حمزة بن علي بن محمد الزوزني 375هـ/ 430هـ: وهو الذي أعلن سنة 408ه‍ أن روح الإله قد حلت في الحاكم، ودعا إلى ذلك وألف كتب العقائد الدرزية.

يليه في مرجعية التأسيس للمذهب محمد بن إسماعيل الدرزي المعروف بنشتكين، كان مع حمزة في تأسيس عقائد الدروز إلا أنه تسرع في إعلان ألوهية الحاكم سنة 407 هـ، مما أغضب حمزة عليه وأثار الناس ضده حيث فرَّ إلى الشام وهناك دعا إلى مذهبه، وظهرت الفرقة الدرزية التي ارتبطت باسمه على الرغم من أنهم يلعنونه؛ لأنه خرج عن تعاليم حمزة الذي دبّر لقتله سنة 411 هـ.

(وللحديث بقية)