قبل مدة ليست بالبعيدة ساهمت المساعدات الأمريكية والمساعدات الممنوحة من الدول الأوروبية وجهات متعددة الأطراف في دعم نظام بيئي عالمي، والمساهمة في دعم الجهود المدنية التي تهدف إلى حماية الرقابة الديمقراطية على السياسات العامة، ومؤخرا الرقابة على العالم التكنولوجي الرائد.

إني على معرفة واسعة بهذا الأمر، فلقد عملت في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مدة تجاوزت 12 عاما، وكان صميم عملي في تعزيز الحكم الديمقراطي والسعي لبناء مجتمع مدني بصورة متوازنة مع السلطة السياسية غير المقيدة لمواجهة السلطة المسيئة.

أما الآن، فإن هناك قطعا في الشريان المالي للمجتمع المدني، وهناك بوادر لتفكيك هذا النظام البيئي، وذلك بشكل صريح وعلى مرأى من العالم.

فقرار النظام الأمريكي الجديد فيما يتعلق بحل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتجميد التمويل للصندوق الوطني للديمقراطية، وحل المعهد الأمريكي للسلام، والانسحاب من عدد من المنظمات الدولية وأهمها منظمة الصحة العالمية وغيرها من الصناديق متعددة الأطراف يعتبر تراجعا منسقا لما يعرف بفكرة أن الأصوات المدنية لها دور فاعل في تشكيل السياسة العالمية، وبشكل خاص فيما يتعلق بحوكمة التكنولوجيات الرائدة في الوقت الحالي مثل تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وأنظمة المراقبة، والتكنولوجيا الحيوية.

وهنا تكمن النقطة المهمة؛ فالمجتمع المدني لا يجب أن يتم التعامل معه على أنه جزء مضر في الموازنات المالية، بل هو الهدف بشكل أساسي.

لقد ساهمت منظمات المجتمع المدني إلى جانب المؤسسات الأكاديمية حول العالم، ولسنوات عديدة في بناء البنية التحتية لمجال حوكمة التكنولوجيا الديمقراطية، والعديد من تلك المنظمات والمؤسسات الأكاديمية ممولة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وشركائها. وساهمت في تدريب الكثير من الجهات المدنية على المعرفة بالحقوق الرقمية والمشاركة في وضع السياسات، كما قامت بتمويل العديد من الدراسات والاختبارات التي تقيِّم المخاطر على الأفراد وعلى المجتمعات الواردة من بعض التقنيات الناشئة، إلى جانب مساهمتها في أن يكون المجتمع مشاركا في القرارات الحاسمة ووضع شركات التقنية أمام المساءلة القانونية وفق معايير المصلحة العامة.

وضمنت تلك المنظمات والمؤسسات حصول الحكومات على الدعم الفني والبحوث المستقلة التي ساهمت في تشكيل السياسات الرقمية إلى جانب وضع المبادئ الديمقراطية في عين الاعتبار.

ونصل الآن إلى مفترق طرق، فتلك المؤسسات والمنظمات من غير المال لن تتمكن من الوصول إلى غاياتها، ولم يتم سماع صوتها، ولن تستطع بعد ذلك محاكمة السلطة.

وبالفعل قام دونالد ترامب بإلغاء الأمر التنفيذي للرئيس السابق جو بايدن فيما يتعلق بسلامة الذكاء الاصطناعي، واستبدل ذلك بما يمكن تشبيهه بـ «إعانات سخية» وتحريرا من القيود المفروضة على أصحابه المليارديريين في القطاع التكنولوجي، وفي ذات الوقت تم إغلاق برامج الحوكمة الرقمية التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وصاحب ذلك اختفاء أرشيفات الوكالة الرقمية من الإنترنت، وتعرض عدد من المنظمات المدنية والمؤتمرات العالمية واللجان الاستشارية للعرقلة.

وحقيقة لا حاجة اليوم لإحراق المكتبات لطمس الذاكرة، ففي العصر الرقمي يكفي فقط إغلاق المواقع الإلكترونية، وليس هذا الانهيار مقتصرًا على الديمقراطيات البعيدة، بل إن الخطة ذاتها يتم تطبيقها الآن في الداخل الأمريكي، الجامعات، والمراكز البحثية، والبنية التحتية المدنية داخل الولايات المتحدة، والتي لعب العديد منها أدوارا أساسية في صياغة سياسات التكنولوجيا ذات المصلحة العامة، أصبحت هي الأخرى تحت الهجوم، ومع إزالة الدعائم الدولية، بدأ النظام يوجه أنظاره إلى الداخل.

والتوقيت لا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، ففي اللحظة التي يحتاج فيها العالم إلى حوكمة رقمية أكثر قوة واتساعا، يضيق الخناق على مساحة المشاركة الديمقراطية.

قد يُقدّم دونالد ترامب وإيلون ماسك نفسيهما كـ «مخترقين للنظام»، لكنهما في الحقيقة مهندسان لنظام «أوليغارشي» جديد - نظام أوليغارشي يرمز إلى سلطة الأقلية - وتقوم رؤيتهما لحوكمة التكنولوجيا العالمية على غياب المجتمع المدني، وتلاشي الضوابط الديمقراطية، وصنع القرارات خلف أبواب مغلقة في مجالس إدارة خاصة، لا في منتديات عامة، بل على أيدي رجال مهووسين بالسلطة.

ولم يكن اختيار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كأول هدف لإجراءات التفكيك محض صدفة، فهي وكالة مجهولة نسبيًا لدى معظم الأمريكيين وسهلة الاستهداف سياسيًا، ما جعلها «إثباتا للمفهوم». ومع عدم وجود قاعدة جماهيرية محلية للدفاع عنها، لم يلتفت كثيرون حينما تبخرت عقود من العمل الداعم للمشاركة المدنية، لا سيما في دول الجنوب العالمي، بين ليلة وضحاها. ومع ذلك الانهيار، تلاشت أيضًا الفكرة الجوهرية القائلة إن التكنولوجيا يجب أن تخدم الناس، لا أن تهدف إلى جني الأرباح فقط.

ما لم يتدخل الآخرون، وأعني الأغلبية العالمية المدعومة بتمويل أوروبي، والاتحاد الأوروبي، وائتلافات المجتمع المدني حول العالم، فإننا سنكون في مواجهة خطر تسليم أجندة الحوكمة الرقمية بالكامل لأولئك الذين يرون الديمقراطية والتنوع عائقًا أمام مشاريعهم.

إن الديمقراطية الرقمية لن تدافع عن نفسها، لا بد من بنائها عمدًا، وحمايتها، وتوسيع نطاقها، وهذا يعني الاستثمار في البنية التحتية المدنية، وتمويل جهود التكنولوجيا ذات المصلحة العامة، وضمان ألا تكون المشاركة الديمقراطية عالميا ومحليا مجرد ترف، بل شرطا أساسيا، لأنه عندما يُحرم المجتمع المدني من المساهمة في صياغة القواعد، فلن تخرج التكنولوجيا وحدها عن نطاق المساءلة، بل ستتحول السلطة ذاتها إلى كيان مطلق.

مايكل إل باك خبير في الحوكمة الديمقراطية ومستشار في مركز قيادة الذكاء الاصطناعي بسنغافورة وتولى منصب رئيس السياسات العامة في الفيس بوك.

الترجمة عن آسيا تايمز