في أواخر ستينيات القرن الماضي وبعد اكتشاف ترسّبات الغاز الطبيعي في بحر الشمال تغير الاقتصاد الهولندي بطريقة مثيرة خلال فترة قصيرة نسبيا. ففي عام 1964 لم تصدِّر هولندا أيّ غاز تقريبا. لكن بعد عشر سنوات لاحقا صدرت ما يكافئ 74 مليون طن من النفط.
رفعت صادرات الغاز قيمة العملة الهولندية (الجيلدر) وأتاحت الإيرادات الضريبية من الثروة التي هبطت فجأة على الهولنديين زيادةَ الإنفاق الاجتماعي، على نحو ما أوضح بحث أعده مايكل ايلمان الأستاذ الفخري بجامعة أمستردام في أواخر السبعينيات.
شكل ذلك ضغطا على الشركات الصناعية خارج قطاع النفط من كلا الجانبين. فالتكاليف ارتفعت في الداخل وأسعار الصرف زادت من صعوبة التصدير.
في هولندا تحولت الميزة الواضحة والمتمثلة في الازدهار المفاجئ في صادرات الغاز الطبيعي إلى ضرر وضربة للصناعة المحلية. فبحلول عام 1975 تراجع إنتاج صناعة الملابس في هولندا بنسبة 15% وصناعة الأحذية بأكثر من 50%.
نحن الآن نسمي هذه الظاهرة «المرض الهولندي». لقد أصبح وسيلة مفيدة لتحليل وضع البلدان التي تصدر السلع. فهو يفسر سبب صعوبة تحويلها للثروة التي جنتها من صادراتها إلى اقتصادات متنوعة ومنتجة في الداخل.
يعتقد العديدون الآن أن المرض الهولندي ظاهرة تتعلق ببلدان العالم النامي. فالاقتصادات المتقدمة أمْيَل إلى أن تكون متنوعة ومنتجة بقطاعات صناعية قوية تحقق قيمة مضافة. لكن إذا تناولنا وضع الولايات المتحدة خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية من الممكن أن نعتبر عجز حسابها التجاري «صادرها» الأقوى والأكثر دواما. (بمعنى أن العالم يشتري هذا «العجز» في شكل طلب على الدولار أو يعتمد عليه للحصول على الدولار والاستثمار في الأصول الدولارية والحفاظ على الاستقرار المالي العالمي- المترجم.)
حتى هذا العام، كان الناس حول العالم يرغبون على الدوام في اقتناء الأصول المقومة بالدولار (سندات الخزانة) والتي يوجدها الأمريكيون عندما يقترضون. وكان الأمريكيون أكثر من سعداء بمنح الناس حول العالم ما يريدونه.
حقا يتجادل الأمريكيون فيما بينهم على أساس غير مبدئي (لأغراض سياسية) حول مستويات ديونهم. والديمقراطيون أفضل في إيجاد سبل لتدبير ما ينفقونه على برامجهم الاقتصادية. لكن بشكل عام إذا انتبهنا ليس إلى ما يقوله الأمريكان لكن ما يفعلونه سنجد أن الولايات المتحدة اكتشفت في الدَّين «موردا طبيعيا» حوالي عام 2000 وأنها ظلت «تصدّره» منذ ذلك الحين.
فالولايات المتحدة لديها المرض الهولندي. وما تصدره هو الدولار. وكل الذي يلزمك لكي ترى ذلك أن تكف عن النظر إلى الولايات المتحدة وكأنها استثناء وليست خاضعة لنفس القوى (الاقتصادية) مثلها مثل أي بلد آخر.
فقد الدولار حوالي 8% من قيمته خلال الأشهر الستة الماضية. وهو ما جدد الجدل القديم حول طبيعة امتلاك الولايات المتحدة عملة احتياط العالم وهل هو امتياز مُغالى فيه أم عبء فادح. الإجابة الأكثر مباشرة هي: بالطبع إنه لامتياز أن تصدّر الولايات المتحدة (للعالم) دينا بقيمة 36 تريليون دولار. لكن بعض الأدبيات التي كتبت عن المرض الهولندي يمكن أن تساعدنا في فهم الكيفية التي تحول بها هذا الامتياز إلى عبء.
في تسعينيات القرن الماضي بدأ اقتصاديو التنمية في توثيق حقيقة أن البلدان التي لديها صادرات سلعية قوية قلَّ نموها الاقتصادي. في عام 1999 قدم كل من آرون تورنل وهو الآن أستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس وفيليب لين كبير الاقتصاديين بالبنك المركزي الأوروبي حاليا «إطارا نظريا» لشرح ما حدث.
حاجج الاقتصاديان بأن تصدير السلع أحدث تغييرا في طريقة إعداد الموازنة. وأن جماعات قوية (نُخَب نفوذ) ستسعى بعد التدفقات المالية الضخمة وغير العادية الناتجة عن تصدير السلعة (أو السلع) الأولية لوضع يدها على أي إنفاق جديد. أما إذا كانت لدى البلد المعني مؤسسات قوية وتضامن اجتماعي فسيفشل هذا الاختطاف للإنفاق. لكن مع وجود مؤسسات ضعيفة سينجح. فبدلا من أن يذهب الإنفاق الجديد إلى أشياء تزيد الإنتاجية كتشييد الطرق والمدارس سيذهب إلى الجماعات القوية في شكل هدايا غير منتجة.
تورنل ولين استخدما مصطلح «أثر الجشع» لوصف ذلك. لقد طبقاه في دراستهما على بيانات من نيجيريا وفنزويلا والمكسيك. لكن إذا قبلنا القول بأن الولايات المتحدة ليست استثناء يمكننا بسهولة طرح هذه الأسئلة عنها أيضا. أي ما مدى جشع جماعاتها (نخبها) القوية؟ وما مدى قوة مؤسساتها؟
الإجابة على السؤال الأول هي أن جماعاتها «جشعة تماما» وعلى السؤال الثاني «مؤسساتها ليست بالقوة التي كنا نعتقدها»
لا يساعد «أثر الجشع» على تفسير الجرأة المذهلة لما سُمِّي مشروعَ الموازنة الكبير والجميل (أجازه الكونجرس ووقَّع دونالد ترامب على قانونه مؤخرا) بتكلفته البالغة 3.4 تريليون دولار خلال 10 سنوات والذي تذهب الأغلبية الغالبة من منافعه إلى الأثرياء.
في الماضي حاول الجمهوريون تصوير التخفيضات الضريبية للأثرياء كسياسة تهدف إلى إطلاق الاستثمار المنتِج. بل مضوا حتى إلى محاولة جعل هذه الفكرة نموذجا لعملية تُدعَى التقدير الدينامي لأثر الضريبة على الاقتصاد الكلي (تعني هذه الفكرة أن خفض الضريبة للأثرياء سيحفزهم على الاستثمار وبالتالي يزيد الإيرادات الضريبية في وقت لاحق - المترجم.)
لكن حتى التكلفة الدينامية لمشروع «قانون الموازنة الكبير والجميل» بدت مربكة. لم يحفل الحزب الجمهوري بذلك. فالأثرياء كانوا ببساطة جشعين. والمنطق الطاغي وراء مشروع الموازنة بما في ذلك اسمه (الكبير والجميل) يتلخص في التالي: «نحن نفعل ذلك لأن في مقدورنا أن نفعله».
هذا قول صريح وصادق على الأقل. فالولايات المتحدة يمكنها الاقتراض (دون قيد) والجماعات الأقوى ستحصل على ما يمكنها منه.
المؤسسات الأمريكية لم تَرْقَ أبدا إلى مستوى هذا التحدي. ولن تكون كذلك حتى تواجه الولايات المتحدة فجأة «إطارا نظريا» ما كان يلزمها التفكير بشأنه منذ عام 2000 على الأقل. دعونا نسمِّي هذا الإطار النظري «أثر نُدْرة الإيرادات الحكومية».
بريندان جريلي محرر مساهم في الفاينانشال تايمز
رفعت صادرات الغاز قيمة العملة الهولندية (الجيلدر) وأتاحت الإيرادات الضريبية من الثروة التي هبطت فجأة على الهولنديين زيادةَ الإنفاق الاجتماعي، على نحو ما أوضح بحث أعده مايكل ايلمان الأستاذ الفخري بجامعة أمستردام في أواخر السبعينيات.
شكل ذلك ضغطا على الشركات الصناعية خارج قطاع النفط من كلا الجانبين. فالتكاليف ارتفعت في الداخل وأسعار الصرف زادت من صعوبة التصدير.
في هولندا تحولت الميزة الواضحة والمتمثلة في الازدهار المفاجئ في صادرات الغاز الطبيعي إلى ضرر وضربة للصناعة المحلية. فبحلول عام 1975 تراجع إنتاج صناعة الملابس في هولندا بنسبة 15% وصناعة الأحذية بأكثر من 50%.
نحن الآن نسمي هذه الظاهرة «المرض الهولندي». لقد أصبح وسيلة مفيدة لتحليل وضع البلدان التي تصدر السلع. فهو يفسر سبب صعوبة تحويلها للثروة التي جنتها من صادراتها إلى اقتصادات متنوعة ومنتجة في الداخل.
يعتقد العديدون الآن أن المرض الهولندي ظاهرة تتعلق ببلدان العالم النامي. فالاقتصادات المتقدمة أمْيَل إلى أن تكون متنوعة ومنتجة بقطاعات صناعية قوية تحقق قيمة مضافة. لكن إذا تناولنا وضع الولايات المتحدة خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية من الممكن أن نعتبر عجز حسابها التجاري «صادرها» الأقوى والأكثر دواما. (بمعنى أن العالم يشتري هذا «العجز» في شكل طلب على الدولار أو يعتمد عليه للحصول على الدولار والاستثمار في الأصول الدولارية والحفاظ على الاستقرار المالي العالمي- المترجم.)
حتى هذا العام، كان الناس حول العالم يرغبون على الدوام في اقتناء الأصول المقومة بالدولار (سندات الخزانة) والتي يوجدها الأمريكيون عندما يقترضون. وكان الأمريكيون أكثر من سعداء بمنح الناس حول العالم ما يريدونه.
حقا يتجادل الأمريكيون فيما بينهم على أساس غير مبدئي (لأغراض سياسية) حول مستويات ديونهم. والديمقراطيون أفضل في إيجاد سبل لتدبير ما ينفقونه على برامجهم الاقتصادية. لكن بشكل عام إذا انتبهنا ليس إلى ما يقوله الأمريكان لكن ما يفعلونه سنجد أن الولايات المتحدة اكتشفت في الدَّين «موردا طبيعيا» حوالي عام 2000 وأنها ظلت «تصدّره» منذ ذلك الحين.
فالولايات المتحدة لديها المرض الهولندي. وما تصدره هو الدولار. وكل الذي يلزمك لكي ترى ذلك أن تكف عن النظر إلى الولايات المتحدة وكأنها استثناء وليست خاضعة لنفس القوى (الاقتصادية) مثلها مثل أي بلد آخر.
فقد الدولار حوالي 8% من قيمته خلال الأشهر الستة الماضية. وهو ما جدد الجدل القديم حول طبيعة امتلاك الولايات المتحدة عملة احتياط العالم وهل هو امتياز مُغالى فيه أم عبء فادح. الإجابة الأكثر مباشرة هي: بالطبع إنه لامتياز أن تصدّر الولايات المتحدة (للعالم) دينا بقيمة 36 تريليون دولار. لكن بعض الأدبيات التي كتبت عن المرض الهولندي يمكن أن تساعدنا في فهم الكيفية التي تحول بها هذا الامتياز إلى عبء.
في تسعينيات القرن الماضي بدأ اقتصاديو التنمية في توثيق حقيقة أن البلدان التي لديها صادرات سلعية قوية قلَّ نموها الاقتصادي. في عام 1999 قدم كل من آرون تورنل وهو الآن أستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس وفيليب لين كبير الاقتصاديين بالبنك المركزي الأوروبي حاليا «إطارا نظريا» لشرح ما حدث.
حاجج الاقتصاديان بأن تصدير السلع أحدث تغييرا في طريقة إعداد الموازنة. وأن جماعات قوية (نُخَب نفوذ) ستسعى بعد التدفقات المالية الضخمة وغير العادية الناتجة عن تصدير السلعة (أو السلع) الأولية لوضع يدها على أي إنفاق جديد. أما إذا كانت لدى البلد المعني مؤسسات قوية وتضامن اجتماعي فسيفشل هذا الاختطاف للإنفاق. لكن مع وجود مؤسسات ضعيفة سينجح. فبدلا من أن يذهب الإنفاق الجديد إلى أشياء تزيد الإنتاجية كتشييد الطرق والمدارس سيذهب إلى الجماعات القوية في شكل هدايا غير منتجة.
تورنل ولين استخدما مصطلح «أثر الجشع» لوصف ذلك. لقد طبقاه في دراستهما على بيانات من نيجيريا وفنزويلا والمكسيك. لكن إذا قبلنا القول بأن الولايات المتحدة ليست استثناء يمكننا بسهولة طرح هذه الأسئلة عنها أيضا. أي ما مدى جشع جماعاتها (نخبها) القوية؟ وما مدى قوة مؤسساتها؟
الإجابة على السؤال الأول هي أن جماعاتها «جشعة تماما» وعلى السؤال الثاني «مؤسساتها ليست بالقوة التي كنا نعتقدها»
لا يساعد «أثر الجشع» على تفسير الجرأة المذهلة لما سُمِّي مشروعَ الموازنة الكبير والجميل (أجازه الكونجرس ووقَّع دونالد ترامب على قانونه مؤخرا) بتكلفته البالغة 3.4 تريليون دولار خلال 10 سنوات والذي تذهب الأغلبية الغالبة من منافعه إلى الأثرياء.
في الماضي حاول الجمهوريون تصوير التخفيضات الضريبية للأثرياء كسياسة تهدف إلى إطلاق الاستثمار المنتِج. بل مضوا حتى إلى محاولة جعل هذه الفكرة نموذجا لعملية تُدعَى التقدير الدينامي لأثر الضريبة على الاقتصاد الكلي (تعني هذه الفكرة أن خفض الضريبة للأثرياء سيحفزهم على الاستثمار وبالتالي يزيد الإيرادات الضريبية في وقت لاحق - المترجم.)
لكن حتى التكلفة الدينامية لمشروع «قانون الموازنة الكبير والجميل» بدت مربكة. لم يحفل الحزب الجمهوري بذلك. فالأثرياء كانوا ببساطة جشعين. والمنطق الطاغي وراء مشروع الموازنة بما في ذلك اسمه (الكبير والجميل) يتلخص في التالي: «نحن نفعل ذلك لأن في مقدورنا أن نفعله».
هذا قول صريح وصادق على الأقل. فالولايات المتحدة يمكنها الاقتراض (دون قيد) والجماعات الأقوى ستحصل على ما يمكنها منه.
المؤسسات الأمريكية لم تَرْقَ أبدا إلى مستوى هذا التحدي. ولن تكون كذلك حتى تواجه الولايات المتحدة فجأة «إطارا نظريا» ما كان يلزمها التفكير بشأنه منذ عام 2000 على الأقل. دعونا نسمِّي هذا الإطار النظري «أثر نُدْرة الإيرادات الحكومية».
بريندان جريلي محرر مساهم في الفاينانشال تايمز