على مدار الشهور الإحدى والعشرين الطويلة الماضية من حرب إسرائيل الإبادية على غزة، أدانت أصوات من شتى أرجاء العالم هلاك القانون الدولي والنظام القائم على القواعد. والحق أن واجهة التزام إسرائيل بالقانون الدولي قد تلاشت وباتت سياساتها الإجرامية معلنة الآن في سفور.

ففي الأسبوع الحالي أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتز عن خططه لنقل الفلسطينيين قسرا إلى معسكر في أطلال رفح. ولن يدخل الفلسطينيون هذا المعسكر إلا ويمتنع عليهم الخروج منه. وذلك، بعبارة أخرى، معسكر اعتقال، وهو بالتعريف مركز احتجاز لأفراد جماعة قومية (أو سجناء سياسيين أو جماعات أقلوية) لأسباب أمنية أو عقابية، وعادة ما يكون ذلك في ظل نظام عسكري.

وقد نقلت ذي جارديان عن محام إسرائيلي حقوقي يدعى مايكل سفارد قوله إن كاتز «وضع خطة تفصيلية لجريمة ضد الإنسانية» في الوقت الذي لقي فيه المئات مصرعهم وأصيب الآلاف في محاولة الوصول إلى الطعام.

ولقد حاولت جاهدا أن أستوعب المعاناة غير ممكنة الاستيعاب التي عانى منها الفلسطينيون في غزة، وكيف أن أغلب الإسرائيليين لا يعترفون بإنسانيتهم. وكيف يتسنى لهم ألا يبدوا ندما على ما يقوم به جيشهم باسمهم؟ وأعتقد أن بذرة انتزاع الصفة الإنسانية عنا قد غرست خلال الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948. فقد حرم الفلسطينيون بالعنف من أرضهم وممتلكاتهم وأغراضهم في ما أصبحنا بعد ذلك نطلق عليه «النكبة»، والمسوغ لذلك كله هو أن الرب قد أعطى الأرض للشعب اليهودي. ومنذ ذلك الوقت، بات بوسع الإسرائيليين استعمال البيوت والأراضي والبساتين العربية دونما إحساس بالذنب. وكانت هجمات السابع من أكتوبر نقطة انطلاق الحرب، لكن إسرائيل دأبت على إهانة الشعب الفلسطيني وسلبه ممتلكاته منذ عقود.

مثل هذه الانتهاكات للقانون الدولي تفضي إلى إحساس باليأس من عجز المؤسسات عن الوقاية من أهوال الأفعال الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية وعن محاسبة مقترفيها.

ولقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية المدعومة من الأمم المتحدة أوامر اعتقال لنتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بسبب مزاعم «جريمة حرب هي استعمال منهج التجويع سلاحا حربيا، وبسبب جرائم ضد الإنسانية من قبيل القتل والتعذيب وغيرها من الأفعال غير الإنسانية». ولم يجر أي اعتقال. ولا يزال الغرب مستمرا في إمداد إسرائيل بالدعم العسكري والسياسي. وإنني لأسأل نفسي: هل يجدر بنا نحن الفلسطينيين أن نشعر بالعجز في مواجهة هذا الفشل؟

والحقيقة هي أن القانون الدولي، وإن استعملته منظمات حقوق الإنسان معيارا ومرجعا، لم يكن قط خلاصا للفلسطينيين. فمنذ العجز عن تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194 الصادر سنة 1948 الذي أعطى اللاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى بيوتهم في الأرض التي أصبحت إسرائيل، ونحن نتعرض لخيبة الأمل المرة تلو الأخرى.

ولم يحدث هذا لنقص في محاولات الفلسطينيين على مدار السنين اللجوء إلى القانون، سواء من خلال المحاكم الإسرائيلية، أو المحاكم الدولية، أو آليات التنفيذ الخاصة بطرف ثالث. والسبب البسيط في فشلهم هو أن القانون الدولي يفتقر إلى وسائل فعالة للتنفيذ. أما الأسباب الأكثر تعقيدا فتكمن في مصالح الأقوياء. ولا رجاء لي إلا في قدرة الفلسطينيين على الصمود.

وكان الأمل والتوقع السائدان هما أن الفلسطينيين سوف ينسون أرضهم في غضون جيل أو اثنين. وثبت أن هذا الأمل واه تمام لا أساس له. فبعد سبعة وسبعين عاما، لا يزال الفلسطينيون مرتبطين بأرضهم التي خرجوا منها قسرًا كما كانوا مرتبطين بها في أولى الأيام الدامية.

وبالمثل مع جميع التغيرات غير القانونية والاستيطان الإسرائيلي الكثيف وتبدل جغرافيا وطني في الضفة الغربية، لا نزال نحن الفلسطينيون متشبثين بما نسميه الصمود، رافضين الاستسلام أو الرحيل. وليس لي أن أتكلم باسم الفلسطينيين في غزة، لكنني أرى أن روحنا واحدة برغم جسامة المعاناة.

وحينما تنتهي الحرب، ويتاح للصحفيين والمنظمات الأجنبية دخول غزة، سوف تنكشف الحقيقة. وقد يجد الإسرائيليون أنفسهم مطاردين من روايات شهود العيان المباشرة ممن عاشوا هناك، أعني تجارب النساء والرجال والأطفال والفنانين والكتاب والشعراء، شهادات الحياة التي انقصفت قبل الأوان والتغيرات التي تمت بلا أمل في الرجوع عنها.

ستكون إنسانيتنا، وليس القانون الدولي، هي التي ستحكم على إسرائيل وحلفائها وتحاسبهم. وعلى نطاق مختلف وإن لم يقل وضوحا، فإن التغييرات الأحادية غير القانونية التي تجربها إسرائيل في الضفة الغربية ـ بعون في أغلب الأحيان من ميلشيات استيطانية ـ سوف ترسم صورة للجشع الإسرائيلي إلى الأرض ولسياساتها ذات الدوافع الأيديولوجية.

وقد لا يكون من مثال على عبث الأفعال الإسرائيلية أوقع من حالة المدينة القديمة في الخليل. فالمدينة أسيرة لدى مجموعة صغيرة من المستوطنين المتطرفين يبلغ عددهم تسعمائة شخص يعيشون في مركز مدينة الخليل، وهي ثاني أضخم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ يبلغ عدد سكانها 232500 نسمة.

وتجري حماية السكان الإسرائيليين ليل نهار بأكثر من ألف جندي إسرائيلي. ومن أجل إتاحة حرية الحركة للمستوطنين والجنود، فثمة محاذير مفروضة على حركة الفلسطينيين منها عشرات نقاط التفتيش، ومتاريس الطرق، والمواقع العسكرية الدائمة والمؤقتة. وبهذا فقد أخليت المدينة القديمة عمليا من سكانها الفلسطينيين. فهل يمكن لهذا الوضع الدوام؟

أما عن مستقبل غزة، فالسؤال الحاسم هو، مع دمار أسباب الحياة ـ من مزارع ومصادر مياه ومستشفيات ومدارس ـ هل يمكن أن تبقى الأرض قادرة على الإمداد بالحياة؟

بوسع المجتمع الدولي الذي فشل فشلا مخزيا في تفعيل القانون الدولي أن يحدث فارقا في هذا الشأن إذا ما أصر بعد نهاية الأعمال العدائية على أن تسمح إسرائيل بفتح قطاع غزة وضمان وصول المساعدات بما يمكّن الفلسطينيين من مواصلة العيش هناك بينما تجري إعادة بناء المنطقة.

فغزة آهلة بالسكان على مدار تاريخ يمتد لأربعة آلاف عام. ومحاولة إسرائيل لوقف الحياة هناك منذورة بالفشل. لأن الفلسطينيين سوف يجدون سبلا للبقاء، ساعدهم الآخرون في ذلك أم لم يساعدوهم.