الأسبوع الماضي استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قمّة مصغّرة في البيت الأبيض، جمعته برؤساء خمس دول من غرب إفريقيا، هي: الجابون، وغينيا بيساو، وليبيريا، وموريتانيا، والسنغال. وكعادته في لقاءاته الأخيرة بقادة وزعماء الدول أجلس ترامب الرؤساء الخمسة أمامه واستدعى وسائل الإعلام، ثم سمح لكل منهم بالتحدث لمدة خمس دقائق، وعندما شعر بالملل أوقف حديث أحدهم، وطلب منهم أن يُعرف كل منهم باسمه واسم دولته فقط، بحجة أن الوقت ضيق، في تصرف يكشف حجم جهله بالقارة السمراء ودولها وشعوبها، ويكشف حجم العنصرية والكراهية والتنمر التي يحملها للدول والشعوب الأخرى.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: ما الذي دفع ترامب إلى دعوة الرؤساء الخمسة إلى مكتبه بالبيت الأبيض، خاصة أنه لم يسبق أن زار إفريقيا سواء في ولايته الأولى أو ولايته الحالية، ومنع، بأوامره التنفيذية العديدة ومنذ اليوم الأول لتوليه السلطة، دخول مواطني سبع دول إفريقية هي: تشاد وجمهورية الكونغو وغينيا الاستوائية وإريتريا وليبيا والصومال والسودان إلى الولايات المتحدة بشكل كامل، وفرض بأمر آخر قيودا محدودة على مواطني دولتين إفريقيتين أخريين، هما: بوروندي وسيراليون، وحذر بأمر ثالث 24 دولة أخرى من أن يشملها الحظر الكامل أو الجزئي إذا فشلت في اتخاذ إجراءات تصحيحية بشأن إصدار وثائق السفر وتقنين وضع مواطنيها المقيمين بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة خلال 60 يومًا. وتشمل هذه الدول: مصر، وجيبوتي، وأنغولا، وبنين، وبوركينا فاسو، والرأس الأخضر، والكاميرون، وكوت ديفوار، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وإثيوبيا، والجابون، وغامبيا، وغانا، وليبيريا، وملاوي، وموريتانيا، والنيجر، ونيجيريا، والسنغال، وجنوب السودان، وتنزانيا، وأوغندا، وزامبيا، وزيمبابوي. الطريف في الأمر أن الرؤساء الخمسة الذين اجتمع بهم ترامب، باستثناء رئيس غينيا بيساو، ينتمون إلى دول طالتها أو سوف تطالها أوامر ترامب العنصرية!!

وزاد ترامب الطين بلة بإغلاق وكالة المساعدات المعروفة باسم «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية «يو اس ايد»، رغم أن الإنفاق عليها لم يكن يشكل سوى حوالي 0.5% من الإنفاق الحكومي. ودخل قرار إغلاق الوكالة حيز التنفيذ مطلع يوليو الجاري، وهو ما سوف يؤثر سلبا على حياة الملايين من الأفارقة.

وتشير دراسات نشرتها مجلة «تايم» إلى أن الوكالة منعت وفاة أكثر من 90 مليون شخص بين عامي2001 و2022، مع توقعات بأن يؤدي وقف تمويلها إلى وفاة نحو 14 مليون شخص بحلول عام 2030، بما في ذلك 4.5 مليون حالة وفاة بين الأطفال والرضع دون سن الخامسة، ويسبب عودة محتملة لما يصل إلى 630 ألف حالة وفاة مرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) سنويا، وملايين الحالات المرتبطة بمرض الملاريا، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وسوف يفقد نحو خمسة ملايين من السودانيين القدرة على الوصول إلى الخدمات الصحية «المنقذة للحياة، ويجعل المجاعة في السودان الأكثر دموية منذ قرن».

في ظل كل هذا العداء لإفريقيا، يأتي الرئيس الأمريكي ترامب ليستضيف قادة دول إفريقية ويستمع لهم، رغم أن أفعاله لا تعبر عن أي قدر أو احترام للقارة الإفريقية ولزعمائها وشعوبها وتحمل من الجهل بالمعلومات الأساسية عنها الكثير. وقد تجلى جهله عندما سأل رئيس ليبيريا سؤالا عنصريًا محرجا وبأسلوب غير دبلوماسي عن سبب إتقانه للغة الإنجليزية الجيدة التي تحدث بها، دون أن يدري أن هذه الدولة أنشأتها الولايات المتحدة نفسها لتعيد إليها العبيد المحررين في منتصف القرن التاسع عشر، وتأسست تحديدا في العام 1847 كمستعمرة للعبيد المحررين من الولايات المتحدة، ودون أن يعلم أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى التي فرضتها بلاده على مواطني هذه الدولة التي تستنزف أمريكا والدول الغربية ثرواتها خاصة «الماس»، دون أن يحاسبها أحد منذ أكثر من قرنين من الزمن.

في تقديري أن السر يكمن في الصراع على النفوذ الذي أصبح واضحا للعيان بين الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للقوى الاستعمارية الغربية السابقة في إفريقيا، وبين المارد الصيني الذي خرج من «القمقم»، واستغل التجاهل الأمريكي للقارة السمراء لسنوات طويلة، وتسلل إلى دولها عبر مشروعات اقتصادية واستثمارات كبيرة في البنية التحتية وشراكات ومساعدات، مكنته من تغيير العقلية الإفريقية التابعة للرجل الأبيض إلى عقلية جديدة منفتحة على التعاون مع قوى وحضارات ذات ألوان أخرى، وأكثر قربا وأكثر رحمة أيضا.

ترامب، أو بالأصح، الدائرة المحيطة به من غلاة المحافظين ورجال الأعمال النهمين ومراكز البحوث الاستراتيجية شعروا أخيرا بأهمية القارة السمراء، وأهمية وقف التمدد الصيني فيها، خاصة بعد أن أكدت دراسة حديثة لمعهد «بروكينجز»، المعني بدراسات السياسات العامة، أن إفريقيا تمثل الوجهة المقبلة للنمو الاقتصادي العالمي، بفضل ما تتميّز به من تنوّع هائل في الموارد الطبيعية، والموارد البشرية، والإمكانات الاقتصادية الكبيرة غير المستغلة، مع توقعات بأن تحقق معظم دول القارة نموا قويا يعزز الازدهار، ليس فقط في إفريقيا، بل على مستوى العالم أجمع». هذا هو السر إذن في اهتمام الرئيس الأمريكي المفاجئ بإفريقيا، وإذا أضفنا إلى ذلك تحول إفريقيا في السنوات الأخيرة لتكون مجالا جديدا للتنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، يبدو للجميع أن الصين هي من تفوز بها حتى الآن، لأدركنا إن هذا الاهتمام لم يأت من فراغ، وأن الهدف هو إعادة إخضاع دول القارة لمشيئة العم سام.

من سوف ينجح في معركة الاستحواذ على خيرات إفريقيا، والاستفادة من نموها الاقتصادي المتوقع، الولايات المتحدة أم الصين؟ أعتقد أن الأمر سيكون مرهونا ليس فقط بالاعتبارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وحدها، ولكن أيضا بالاعتبارات الأخلاقية. وقد رأينا كيف لم يستطع رجل البيت الأبيض بحكم تراثه الاستعماري الأبيض وتاريخه الأسود في القهر والاستعباد، إبداء الاحترام الواجب للزعماء الأفارقة الخمسة الذين اجتمع بهم في البيت الأبيض، والمعاملة غير الأخلاقية التي قابلهم بها، وهو سلوك مغاير تماما للنهج الصيني الذي يراعى الفوارق الثقافية ويتعامل مع إفريقيا كدول وشعوب ورؤساء، كشركاء وليس كعبيد سابقين.

لقد حاول ترامب أن يعيد تسويق بلاده في إفريقيا عبر سياسة جديدة اسماها «من المساعدات إلى التجارة»، وخلق صورة ذهنية جديدة تستخدم إطار «إن الولايات المتحدة شريك أفضل لإفريقيا من الصين». فهل تنجح مساعيه في ذلك؟ أشك في ذلك، خاصة وأن قادة أفارقة وصفوه منذ سنوات قليلة بأنه «عنصري»، بعد أن قال في إحاطة حول قانون الهجرة «إن المهاجرين من هايتي وإفريقيا قادمون من دول قذرة؟؟