الدين والسياسة علاقة أزلية؛ لا تقوم منظومة الدين من دون سياسة التدافع بين الناس، ولا تسير قاطرة السياسة من دون محرك وقوده الدين. ولا أقصد بالعلاقة الأزلية أنها موغلة في حقب التأريخ الإنساني فحسب، وإنما أقصد قبل ذلك؛ حيث الإنسان في تقلب نشأته الأولى هو كائن سياسي متدين بالطبع، إلا أنه لا يعي لحظة تشكل هذه الكينونة؛ فلا ساعة صفر يمكن أن تحدد بدئها. ولذا؛ عندما نبحث عن هذه العلاقة لا نجدها في لقى الآثار، وأوابد الحضارة، وإنما نكتشفها في عمق النفس الإنسانية.

والسؤال: لماذا علينا أن نبحث في جذور العلاقة بين الدين والسياسية؟ لأن الإنسان تهيمن عليه هاتان السلطتان العميقتان، وأية سلطة غيرهما فرع عنهما أو دونهما. والبحث في العلاقة بينهما هو بحث عن الكينونة الإنسانية، وفهم لوجودنا والغاية منه، ومحاولة للخروج من نفق الجهل الطويل المضني. إنَّ فهم هذه العلاقة هو السبيل إلى إدراك تفكيرنا، وتفسير سلوكنا؛ فما نحن إلا سلالة منحدرة من تلك الجدود المتدثرة بحجب الحقب الأزلية.

الأنانية أصل كل ملكات الإنسان، ومنشأ رغباته، وهي أبعد غوراً من كونها مثلبةً في الخُلُق، فوصفها بالحُسْن أو القُبْح جاء متأخراً عندما وعى الإنسان بأنه كائن أخلاقي يتنازع على المصالح الآنية. أما في أصل نشأته؛ فالأنانية هي وصف للحالة التي مرَّ بها، ويمرُّ بها الخَلْق. الأنانية هنا تعني رغبة الكائن منذ أن كان خلية في الحفاظ على ذاته، والذي يظهر لنا أنه حفاظ على النوع؛ أي أن كل خلية ترغب في أن تعيش أطول أمد ممكن، وإذ إن عمرها محدود فقد عوّضت عنه بالانقسام ثم التوالد.

من هذا الجذر الأزلي المتنقل في ذرات الوجود وخلايا كائناته الحية وجدت السلطة لدى الإنسان، فما من إنسان إلا والسلطة جِبلّة فيه، لكون الأنانية؛ أي حب البقاء على الحياة موجودة في أصله.

السلطة بأصلها مادة؛ فالخلية لا تقتات على أشياء معنوية، بل على مواد تغذيها، وتبقيها حية نامية، وهذا ما قامت عليه مكونات الوجود كلها من جماد ونبات وحيوان؛ بما فيها الإنسان الذي رغم تطوره وانتقاله إلى مرحلة الوعي ظلت السلطة المادية إكسير وجوده.

بيد أنَّ الإنسان حصلت لديه مع السلطة المادية سلطة معنوية، فعندما وجد أخاه الإنسان ينافسه على السلطة المادية، ويتغلب عليه في امتلاكها لجأ هو إلى السلطة المعنوية؛ لأنها سلطة ترجع النفس، فهي وإن اعتمدت على جوانب مادية إلا أنه اعتماد وهمي، ومثاله عندما يهددك إنسان بجيش قوامه ألف مقاتل مدجج بأسلحة الموت، وأنت تعرف بأنه سينفذ وعيده في حين أن جيشك قليل عدده حقير عتاده لا تملك قوة مكافئة لمواجهته، فإنك تلجأ إلى إيهامه بامتلاكك قوة خارقة تواجهه بها من حيث لا يحتسب؛ رجاءَ أن تلقي الرعب في قلبه، وتخلع قلوب جنده، فتتسلط عليهم معنوياً من غير قوة مادية موازية. إن السلطة المعنوية لا تقل مضاءً وأهمية عن السلطة المادية، وغالباً ما تسبقها.

هذا السلوك الذي أتحدث عنه هو سلوك مبدئي أساسي متشكّل من المستوى الأول لـ«كلمة الله» في الوجود؛ إذ إن الكون قد خلقه الله بـ«كلمته»، ثم أودع فيه «نفختين»: الأولى بَنَتْ معمار الكون بأسره قوانينه وأنظمته وأجرامه وكائناته، فأعطته ميكانيكيته، وأمدته بديناميكيته، وهي ما أسميها «نفخة التكوين»؛ فالكون من إثر تلك النفخة تحركه قوانين مُحكَمة لا تتبدل. والثانية اختُص بها الإنسان؛ فعندما استوى عاقلاً نفخ الله فيه من روحه، وعنه انبثق في نفسه الإيمان بالله والأخلاق والوعي، وهذه هي «نفخة الروح». فالإنسان يشترك مع الكائنات كلها في النفخة الأولى، ويستأثر بالثانية، فلا روح بهذا المعنى إلا في الإنسان.

وقد شرحت ذلك في مقال «أصل الدين الإيمان والأخلاق والوعي» -جريدة عمان، 27/ 12/ 2022م - ومما جاء فيه: (إن أصل الدين هو الروح؛ تلك النفخة الإلهية التي غرسها الله في النفس الإنسانية، فكل إنسان يحمل بذرة الدين بين جوانحه؛ مهما كان معتقده. وعن الروح انبثق: الإيمان والخُلُق والوعي، ما يجعل الإنسان متديناً بجبلّته، ولا يوجد هذا عند غيره. فالحيوان لا روح له؛ لأنه لا يستطيع أن يؤمن، ولا أن يتحلى بالأخلاق، ولا وعي له. وما نرى في بعضه من بوادر تعقل هي غير واعية، وإنما هي فطرية بقدر ما تحفظ له نوعه).

إنَّ سلوك الحيوان -الذي قد يبدو قريباً من سلوك البشري العاقل- بما فيه «لغة الحيوانات»، كله نابع من «نفخة التكوين»، لا من «نفخة الروح»، وكلاهما قائمتان على سنن الله في تطور الكون. وهما متواشجتان في الإنسان؛ الأولى مهاد الثانية، والثانية إكليل الأولى، فالإنسان الأول ظهرت في ممارساته ما دل على تديّنه دون أن تدل على نوع التدين.

فقد كان شعوره برغباته الدنيا كشعور الحيوان بحاجته إلى إشباع رغباته، دون أن يدرك أصلها ومآلاتها، فهو حينها ابن رغبته الآنية؛ ومنها التعبد للإله، والانتظام في الحياة.

إن العلاقة بين الدين والسياسة غائرة في الإنسان منذ «نفخة التكوين»؛ فكما قلت إن الأنانية المبدأ الأعلى للحياة، لم تنفك عن الإنسان أبداً، فكان يبدي نوعاً من التعبد ولديه أيضاً نزوع لسياسة نفسه والمحيط من حوله؛ لكي يحافظ على وجوده الذاتي ثم النوعي. إن محاولة الفصل بين الدين والسياسة محاولة يائسة لا يمكن أن تتحقق في الجنس البشري؛ لأنها ثمرة الحفاظ على نوعه.

ألا ترى أن العالم في صراع بعضه البعض؛ أول ما تلجأ إليه أطرافه المتنازعة هو استغلال الدين؟ ذلك؛ لأنه مكوِّن أساس في الحفاظ على الذات وما انبنى عليها؛ من الحفاظ على النوع، ولوازمه من الأفكار والمعتقدات والأساطير.

إنَّ الدين في تحوله لم يعد شأناً فردياً؛ أي لم يبقَ علاقة بين الإنسان وخالقه فقط، وكذلك السياسة؛ لم تبقَ ممارسة للفرد في تنظيم شأنه اليومي فحسب، وإنما تحولا إلى شأن جماعي، حيث تطور التدافع بين الناس إلى نظام ملكي؛ مثّله القصر، وتطورت الممارسات الدينية إلى نظام كهنوتي؛ مثّله المعبد. ورغم أن الأنانية هي الأصل ليحافظ الإنسان على وجوده، لكن في أطوار تقدّمه ونموه تنازع مع أفراد جنسه، وتزاحمت مبادئهم، نتيجة البيئات التي عاشوها والآمال التي يطمحون إليها، مما جعل العلاقة بين الدين والسياسة تتراوح بين التعاون والتنافس، وبين المواجهة والمداهنة، وبين السلم والحرب. والسلطتان في تطورهما تتنازعان مناطقَ النفوذ، خاصةً؛ عندما يعملان في منطقة واحدة. استمر الصراع بينهما عهداً طويلاً إلى أن وصلا لنوع من التراضي وتقاسم الأدوار، حتى فشت العلمانية بين الناس، وأصبح التفريق بينهما هو الأصل.

وبما أن السلطة السياسية -بدايةً- معنية بتنظيم المجتمع الإنساني، ولا تتصل مباشرة بالإله؛ فقد غلب عليها الوجه المادي، وعمدت إلى جمع الإتاوات والضرائب من الناس، على زروعهم وحيواناتهم وسائر ثرواتهم. أما السلطة الدينية -التي هي بالمقام الأول علاقة بين الإله والإنسان- فكان على الإنسان أن يقدّم عبرها القرابين إلى الإله ابتغاء رضاه واتقاء سخطه ونيل بركاته. هذا النسق -الذي ابتكره الإنسان للخروج من مرحلة التنافس وحالة الصراع- قدّم حلاً عملياً لكلا السلطتين، بيد أنَّه لم يسلم من الخروقات، بل تواصلت انتهاكاته على مرِّ التأريخ الإنساني؛ بسبب سنة التدافع بين البشر، وهو ما عُرف بـ«الصراع بين القصر والمعبد».

ختاماً؛ جاء الإسلام ليعالج هذه العلاقة بنظام يجمع بين التعقل في السياسة التي هي شأن الناس، وبين الأخلاق التي تكتسب إلزامها من الإيمان.