تحوّل الحراك الدبلوماسي إلى وسيلة عملية لتوسيع آفاق التعاون الدولي، وجذب الاستثمارات النوعية، ونقل التكنولوجيا، وفتح الأسواق أمام الصادرات العُمانية، ولم تعد العلاقات الثنائية تُبنى على الاعتبارات السياسية فحسب، بل أضحت اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم الاقتصادية إحدى الركائز الأساسية في كل زيارة رفيعة المستوى، في ظل عالم مضطرب يبحث فيه المستثمرون عن وجهات مستقرة وآمنة، وهنا يبرز دور سلطنة عُمان بوصفها شريكًا موثوقًا، وبيئةً استثمارية واعدة تستند إلى الاستقرار والاحترام الدولي.

ويُنظر دائمًا إلى السياسة الخارجية العُمانية؛ باعتبارها أنموذجًا إقليميًا ودوليًا حكيمًا ومتزنًا، ترتكز على ثوابت صلبة تتسم بالاعتدال والحياد الإيجابي، ويترسَّخ هذا النهج القويم، بفضل الرؤية الثاقبة عبر الأزمنة وأكدها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه-؛ الأمر الذي مكَّن سلطنة عُمان من أن تحتل مكانة مرموقة بين الأمم، وتكون عنصرًا فاعلًا في العديد من الملفات الاستراتيجية الإقليمية والدولية.

وقد شهد هذا الملف ديناميكية عالية في الفترة الأخيرة حيث زار جلالته- حفظه الله- عدة دول إقليمية ودولية، كما استقبل عددًا من قادة وزعماء العالم، في دبلوماسية نشطة عكست مدى الحرص على توظيف القوى الناعمة العُمانية من أجل تحقيق التحول في النموذج الاقتصادي العُماني ودعم التنمية المستدامة وجذب الاستثمارات.

وتتجلى أهمية البناء على الزخم الذي تُحققه الزيارات السامية إلى الخارج، والاستقبالات الرسمية لزعماء العديد من الدول في مسقط، وتوظيف مذكرات التفاهم والتعاون والاتفاقيات المُبرمة مع الدول، من خلال برنامج وخطوات تنفيذية تضمن تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة، وتسخير هذه المكانة الرفيعة والعلاقات الدولية المميزة لخدمة التحولات الاقتصادية المُلحَّة، وترجمتها لواقعٍ يعيشه أفراد وأسر وشركات المجتمع العُماني، ويجني ثمارها الجميع من جانب، وبما يُمثِّل الضامن لاستمرار هذه السياسة المُستقلة والمُتزِنة من جانب آخر.

هذا المسعى يستوجب تسخير مكامن قوة هذه الدبلوماسية لجذب رؤوس الأموال لتعزيز الاستثمارات في مختلف القطاعات المتعطشة، واجتذاب التكنولوجيا والمواهب والتي نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وفتح الأسواق لتعزيز التجارة، وجميعها ركائز أساسية لتحقيق مُستهدفات «رؤية عُمان 2040» وخطط التنمية المُتعاقِبة.

وعلى الرغم مما نراه من نجاحات في هذا الصدد، فإنَّ التطلعات تطمح لما هو أكبر بما يحقق المأمول، ويمكن أن نعزو ذلك إلى أسباب عدة؛ منها: تواضع جهود تأهيل القدرات البشرية، ومحدودية الموازنات المرصودة للبعثات الدبلوماسية، علاوة على ضررة زيادة جرعة التمكين المادي والتقني والبشري لصالة «استثمر في عُمان» فهي من بين أهم الجهات المعنية بشكل أساسي بتعزيز الارتباط بالعالم، ونحن هنا أمام عنصر فاعل في عوامل الإنتاج ومُكوِّن مُهم لأي معادلة اقتصادية تنموية فلا يمكن إغفال أهمية دور المتعاملين من دول العالم الأخرى والارتباط والتواصل والاندماج في أي منظومة تنموية.

وكثيرًا ما يدعو المراقبون والخبراء الاقتصاديون إلى تحويل الثقل الدبلوماسي السياسي الفريد للسلطنة إلى ميزة استراتيجية، من أجل تعظيم الاستفادة من الشركاء الموثوق بهم عالميًا، لتصبح السلطنة وجهةً للتعاون الاقتصادي طويل الأمد. ولذلك وفي خِضَم ما يعتري العالم من حالة فوضى وضبابية وغموض وتقلب وارتباك وعدم يقين على مختلف الأصعدة، فإن هناك فرصة عظيمة للدول التي تنعم ببيئة وسياسات مستقرة أن تغتنم الفرصة لتنهض، وتُقدِّم نفسها كمحطة للأمان، وشاطئ مستقر لكي ترسو عليه سفن الاستثمار والتجارة. وعُماننا العزيزة في طليعة هذه الدول، ويستوجب الأمر فكرًا مُتجدِّدًا وأكثر انفتاحًا، وكذلك تخصيص موازنات سخية وتوفير قدرات بشرية قادرة على تحقيق التشبيك الاقتصادي، واستيعاب المشهد العالمي وتوظيف مكامن القوة والموارد المحلية. وهنا نذكر بما نوصي به دائماً لاقتناص الفرص التي تتيحها التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في عالم يسوده التقلب والتعقيد لا خيار من وجود مراكز فكر ودراسات استراتيجية رصينة قادرة على قراءة التغيرات والتوجهات والإشارات المختلفة والخروج بمقاربات جديدة لربطها بشكل يساعد في توظيفها لتحقيق التنمية الاقتصادية المحلية.

وفي قراءة متأنية لمشهد الزيارات الدبلوماسية رفيعة المستوى، يمكن التأكيد أنها أسهمت في ترسيخ نهج الشراكات والتعاون الدولي، بما يتوافق تمامًا مع الأهداف الاقتصادية، خاصةً في ظل ما ترافق مع هذه الزيارات من توقيع اتفاقيات اقتصادية مُهمة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الزيارة السامية إلى المملكة العربية السعودية في عام 2021، (شراكات نوعية في مجالات الطاقة والابتكار والأمن الغذائي وافتتاح أول طريق بري مباشر). كما زار الرئيس المصري في يونيو 2022، (زيادة التدفقات الاستثمارية والتجارية بين البلدين). وزيارة العاهل الأردني في أكتوبر 2022، (توقيع 7 مذكرات تفاهم ومن نتائج الزيارة ارتفاع التجارة الثنائية بنسبة 25%). وفي مايو 2023، وقعت سلطنة عُمان والجمهورية الإسلامية الإيرانية 18 وثيقة تعاون (5 اتفاقيات و10 مذكرات تفاهم و3 برامج تنفيذية)،

وزيارة الجمهورية الجزائرية، في مايو 2025، (إنشاء صندوق استثماري مشترك بقيمة 115 مليون ريال عُماني يستهدف الاستثمار في مجالات الأمن الغذائي، والصّناعات الدّوائية، والمعادن والتّعدين).

كل ذلك يُسلِّط الضوء على نمطٍ واضحٍ لتبنِّي سلطنة عُمان نهجًا يستهدف إبرام شراكات اقتصادية متنوعة، ترتكز على الفرص المتبادلة وخلق قيمة حقيقية على المديين المتوسط وطويل الأجل. وتجدر الإشارة هنا إن السلطنة لا تكتفي بالتواصل مع حلفائها التقليديين فحسب؛ بل تستكشف أيضًا أسواقًا جديدة وتُنشئ علاقات تتماشى مع أولوياتها الاقتصادية الاستراتيجية، وهُنا نشير إلى زيارات نوعية مثل الزيارات إلى روسيا وبلجيكا وسنغافورة، وحتى زيارات أخرى على مستوى المسؤولين، مثل أوزبكستان وكازاخستان وغيرها.

إذن يمكننا التأكيد على أن هذه الدبلوماسية الاقتصادية تُولِّد زخمًا يُعزز جهود تحقيق الأهداف المرجوة، ولا سميا المتعلقة برؤية «عُمان 2040»، بالتوازي مع تهيئة البيئة المحلية من خلال زيادة الإنفاق على مشاريع البنية الأساسية مثل: تطوير موانئ صحار وصلالة والدقم والسويق لتصبح مراكز لوجستية إقليمية، وتحويلها إلى وجهات واعدة للاستثمار والصناعة والتجارة، علاوة على تنفيذ مشاريع لوجستية كبرى، مثل: مشروع السكك الحديدية، ومحطة أسياد للحاويات، وكلها عوامل تعمل على تهيئة بيئة تجارية فعّالة تجذب المستثمرين العالميين.

وفي نفس السياق، فقد شهد الاستثمار الأجنبي المباشر ارتفاعًا مطردًا؛ حيث استقطبت السلطنة 26.7 مليار ريال عُماني استثمارات أجنبية مباشرة بنهاية عام 2024، ونحو 50% منها تتركز في قطاعات عالية القيمة مثل التصنيع والأمن الغذائي والأدوية.

ولذلك نؤكد أن البعثات الدبلوماسية؛ سواء العُمانية في الخارج أو الأجنبية في داخل سلطنة عُمان، تؤدي دورًا اقتصاديًا متزايد الأهمية، ما يستدعي تعزيز فعَّاليتها لتعظيم الاستفادة منها في ترويج الاستثمار، وتسهيل التجارة، وتوفير المعلومات حول الأسواق.

وهذه الاستفادة يمكن أن تتحقق من خلال توسيع نطاق الجهود الاقتصادية لهذه البعثات الدبلوماسية، ما يتطلب تعميق التنسيق بين القطاعين العام والخاص لتأهيل الشركات المحلية للدخول في شراكات عالمية، وتعزيز قدرة السفارات على العمل كمراكز للتقصي عن الفرص التجارية والاستثمارية، ورفدها بالميزانيات المالية الكافية، وتمكينها بالقدرات البشرية المؤهلة والقادرة على تحقيق الأهداف المرصودة، وزيادة جهودها للتواصل والارتباط العالمي لتكون عُمان عنصرًا فاعلًا في سلاسل الاقتصاد العالمي.

ومن المؤكد أن توظيف مكامن دبلوماسيتنا وعلاقاتنا مع دول الجوار الشقيقة عبر بوابة «الدقم» الواعدة، بات أمرًا حتميًا، وذلك من خلال تحويلها إلى مركز لوجستي عالمي، يتولى مهمة تصدير النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية وغيرها، خاصةً في ظل المُستجدات الإقليمية بالغة الخطورة والتي يعلمها الجميع. وهذا الأمر يتم من خلال ربط الدقم بولاية عبري (معبر القوافل قديمًا)، التي ستكون نقطة الارتكاز اللوجستية مع المملكة العربية السعودية (قطار الرياض) ودولة الإمارات العربية المتحدة (قطار الاتحاد). وهذا التعاون مع الأشقاء يتجاوز حدود التجارة البينية، ليتحول إلى تعاون استراتيجي يُحقِّق مكاسب مشتركة لجميع الدول، ويختصر الوقت ويُقلِّل تكلفة الشحن والتأمين، والأهم من ذلك يوفِّر ممرًا آمنًا للغاية للعمليات التجارية واللوجستية، لتكون الدقم المُطلَّة على المحيط الهندي، بديلًا مثاليًا آمنًا؛ بعيدًا عن الممرات الضيقة في الخليج.

د. يوسف بن حمد البلوشي مؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات