يُعد نظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية إحدى الركائز الأساسية لمنظومة الحماية الاجتماعية، لما يؤديه من دور محوري في تأمين دخلٍ مستدام للأفراد في حالات التقاعد، والعجز، والوفاة. كما يُسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، من خلال إدارة اشتراكات العاملين وتوجيه الفوائض المالية نحو استثمارات استراتيجية في مشاريع البنية التحتية والتنموية، بما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني.
إلا أن أنظمة التقاعد في مختلف دول العالم تواجه تحديات متزايدة تتعلق بمدى استدامتها المالية، في ظل ما يُعرف بـ«العجز الاكتواري»؛ وهو الفجوة بين الموارد المالية المتاحة والتزامات الصناديق المستقبلية. ويتفاقم هذا التحدي مع التحولات الديموغرافية، التي تؤثر بشكل مباشر على التوازن المالي للصناديق، لا سيما إذا لم تواكبها إصلاحات وسياسات مرنة تضمن الاستدامة على المدى المتوسط والبعيد.
ويأتي تناول هذا الموضوع بالتزامن مع اليوم العالمي للسكان، الذي يُحتفل به في 11 يوليو من كل عام، وهو يوم أقرّته الأمم المتحدة عام 1989 لرفع الوعي العالمي بالقضايا السكانية وتأثيرها على التنمية المستدامة. حيث يشكل الإنسان محور هذه التنمية. ومن هذا المنطلق، تكتسب استدامة صناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية أهمية بالغة في دعم استقرار المجتمعات وتأمين حياة كريمة للأفراد.
في ضوء ذلك، تبدو الحاجة مُلحّة لفهم الأسس التي تقوم عليها أنظمة التقاعد، وكيف تتعامل مع الضغوط المالية والديموغرافية، خاصة مع توجه الدول، ومن بينها سلطنة عمان، نحو إصلاحات هيكلية تستهدف تعزيز الاستدامة والعدالة بين الأجيال.
كيف تعمل صناديق التقاعد؟ النماذج وآليات التمويل
تتنوع النماذج العالمية في إدارة صناديق التقاعد باختلاف الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وتبعا لذلك تختلف أساليب تمويل هذه الصناديق وآليات صرف المعاشات التقاعدية. ويقوم جوهر عملها على تنظيم العلاقة بين الأجيال، سواء من خلال أنظمة تعتمد على التضامن والتكافل بين العاملين والمتقاعدين، أو من خلال أنظمة فردية تعتمد على مبدأ الادخار والاستثمار.
ووفقا لتصنيف البنك الدولي، تُقسم أنظمة التقاعد إلى ثلاثة نماذج رئيسية: النموذج الأول هو أنظمة المزايا المحددة «Defined Benefit»؛ حيث يحصل المتقاعد على معاش ثابت بناء على عدد سنوات الخدمة ومتوسط الأجر. أما النموذج الثاني، فهو أنظمة الاشتراكات المحددة «Defined Contribution»، والتي تقوم على فكرة «الحصالة» الفردية؛ حيث تُستثمر الاشتراكات بشكل فردي لحساب كل مشترك، ويعتمد المعاش التقاعدي على حجم الادخار والعوائد الاسثمارية المتحققة. في حين يتمثل النموذج الثالث في الأنظمة الهجينة التي تجمع بين مزايا النظامين السابقين، بهدف تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية.
وتعتمد صناديق التقاعد في تمويلها على اشتركات العاملين ومساهمات أصحاب العمل، إلى جانب الدعم الحكومي الذي تقدمه بعض الدول لتعزيز استدامة الصناديق. ويُعد التوازن المالي بين عدد المساهمين النشطين وعدد المتقاعدين عاملا حاسما لاستدامة صناديق التقاعد على المدى الطويل. غير أن هذا التوازن يواجه ضغوطا متزايدة في ظل التحولات الديموغرافية التي تشهدها العديد من دول العالم، خاصة مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الخصوبة، مما يؤدي إلى تقلص المساهمين النشطين الذين يمولون النظام، واتساع قاعدة المستفيدين من العاشات التقاعدية.
وفي هذا السياق، يؤكد صندوق النقد الدولي أن مدى قدرة أنظمة التقاعد على الصمود في وجه الضغوط المالية والديموغرافية يعتمد بشكل كبير على طريقة تصميمها، من حيث آليات التمويل واحتساب المعاشات وتوزيع الأعباء بين الأجيال. فكلما كان النظام أكثر مرونة وتكيفا مع التغيرات السكانية والاقتصادية، زادت فرص استمراره واستدامته على المدى الطويل.
نظام التقاعد في سلطنة عمان .. إصلاحات غير مسبوقة
كان نظام التقاعد في سلطنة عمان قائمًا على تعددية الصناديق التقاعدية التي تخدم مختلف القطاعات الحكومية والعسكرية والخاصة، حيث بلغ عددها 11 صندوقًا مستقلًا. وبالرغم أن عدد سكان سلطنة عمان ليس كبيرًا مقارنة بدول أخرى، فإن توزيع السكان على عدة صناديق تقاعدية متفرقة أدى إلى زيادة الكلفة على كل من العاملين وأصحاب العمل. كما أن التركيبة السكانية تميل إلى فئة الشباب، إلا أن تجزئة النظام إلى صناديق متعددة تسببت في أن بعض هذه الصناديق تواجه تحديات الشيخوخة، حيث يزداد عدد المتقاعدين مقارنة بالمشتركين النشطين، مما فرض على هذه الصناديق رفع نسب الاشتراكات لضمان استمرارية دفع المعاشات التقاعدية.
وقد اعتمد هذا النظام على مبدأ المزايا المحددة «Defined Benefit» المبني على مفهوم التكافل بين الأجيال، حيث تُموَّل معاشات المتقاعدين من اشتراكات العاملين وأرباب العمل، إضافةً إلى الدعم الحكومي. شهدت هذه الصناديق تفاوتًا في شروط التقاعد، سواء من حيث سن التقاعد، أو نسب الاشتراكات، أو طرق احتساب المعاشات، مما أدى مع مرور الوقت إلى ظهور فجوات في العدالة بين المشتركين وتحديات متزايدة في استدامة النظام.
استجابةً لهذه للتحديات المتراكمة، والمتمثلة في اختلال التوازن بين عدد المشتركين والمتقاعدين، وارتفاع التكاليف الناتجة عن تعدد الصناديق وتفاوت شروطها، نفذت سلطنة عمان إصلاحًا هيكليًا شاملًا عبر إصدار المرسوم السلطاني (2023/52)، الذي نص على تأسيس «صندوق الحماية الاجتماعية» ككيان موحد، يدمج جميع الصناديق التقاعدية (المدنية والعسكرية والخاصة) في نظام واحد أكثر مرونة وشمولية واستدامة.
ومن أبرز ملامح هذا الإصلاح، رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 60 عامًا، مع خطة لزيادته بمقدار سنة واحدة كل سبع سنوات حتى يصل إلى 65 عامًا، بما يتماشى مع المتغيرات السكانية ومتطلبات الاستدامة المالية. كما جرى تعديل طريقة احتساب المعاش التقاعدي ليُحتسب على أساس متوسط الأجر طوال فترة الخدمة، بدلًا من آخر راتب أو متوسط آخر خمس سنوات كما كان معمولًا به سابقًا، لتعزيز العدالة بين المشتركين.
في موازاة ذلك، أدخل النظام الجديد برنامجًا ادخاريًا تكميليًا قائمًا على الاشتراكات المحددة (الحصالة)، يُطبق بشكل إلزامي على العاملين غير العمانيين، بينما يُتاح اختياريًا للعمانيين كأداة مساندة لتعزيز مدخراتهم التقاعدية.
ولتعزيز الاستدامة، تضمن النظام الجديد آليات تلقائية لإدارة المخاطر، تسمح له بالتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والديموغرافية استنادًا إلى نتائج التقييمات الاكتوارية الدورية. كما أُقرّ ربط المعاشات التقاعدية بالتضخم للحفاظ على القوة الشرائية للمتقاعدين، مع إبقاء مبدأ التضامن بين الأجيال، وإمكانية تعديل نسب الاشتراكات تدريجيًا حسب الحاجة.
وتقديرًا لهذا التحول النوعي، حصلت سلطنة عمان، ممثلة بصندوق الحماية الاجتماعية، على جائزة الإيسا للممارسات الفضلى لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لعام ٢٠٢٤، التي تمنحها الجمعية الدولية للضمان الاجتماعي (ISSA) تقديرًا للابتكار والتميز في تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية وتحقيق العدالة والاستدامة والكفاءة.
ما تواجهه سلطنة عمان من تحديات في نظام التقاعد ليست حالة استثنائية، بل هو جزء من أزمة عالمية فرضتها التحولات الديموغرافية وارتفاع معدلات الشيخوخة. إذ دفعت هذه التحديات العديد من الدول إلى تنفيذ إصلاحات جذرية لضمان استدامة أنظمتها التقاعدية وتحقيق العدالة بين الأجيال. فعلى سبيل المثال، في هولندا، شرعت الحكومة منذ عام 2019 في تنفيذ إصلاح جذري، يقوم على التحول نحو نظام الاشتراكات المحددة بدلًا من المزايا المحددة، مع الحفاظ على مبدأ تقاسم المخاطر بين الأجيال.
أما دول مثل إيطاليا وفنلندا، فتبنت آلية الربط التلقائي لسن التقاعد بمتوسط العمر المتوقع، بحيث يرتفع سن التقاعد تلقائيًا مع كل زيادة في متوسط الأعمار، لضمان استمرارية التوازن المالي بين الأجيال. وفي السياق الإقليمي، اتجهت المملكة العربية السعودية في عام 2021 إلى دمج المؤسسة العامة للتقاعد مع المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، بهدف تعزيز الكفاءة المالية وتوحيد المزايا بين العاملين في القطاعين العام والخاص.
وتؤكد هذه التجارب بوضوح أن إصلاح أنظمة التقاعد أصبحت ضرورة حتمية لمواجهة تحديات الاستدامة المالية في ظل التحولات الديموغرافية المتسارعة التي يشهدها العالم.
رغم الإصلاح... هل يقود التحول الديموغرافي إلى تفاقم العجوزات الاكتوارية؟؟
تُعد العجوزات الاكتوارية أحد أبرز التحديات التي تواجه نظام التقاعد، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الديموغرافية في أي دولة، إذ تعتمد استدامة نظام التقاعد على التوازن بين فئة المشتركين النشطين وفئة المستفيدين من المعاشات.
وفي سلطنة عمان، تشير المؤشرات السكانية إلى تحولات ديموغرافية متسارعة، فقد انخفض معدل الخصوبة إلى (2.9 مولود لكل امرأة) في عام 2023. ومن المتوقع أن يصل إلى معدل الإحلال (2.1 مولود لكل امرأة) بحلول عام 2030، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، وإذا انخفض معدل الخصوبة دون مستوى الإحلال، فإن البلاد ستواجه على المدى الطويل مسارًا ديموغرافيًا يتجه نحو انكماش سكاني وتقلص أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل مستقبلًا، مما يهدد بتفاقم العجوزات الاكتوارية، إذا لم تُتخذ إجراءات استباقية لمعالجة هذا الخلل. في المقابل، بلغ متوسط العمر المتوقع 77 عامًا في عام 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 80 عامًا بحلول عام 2030 وذلك وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، مما يعكس زيادة متسارعة في أعداد كبار السن، حيث سترتفع نسبتهم من 4% في عام 2023 إلى 5.9% في عام 2040، ويرافق ذلك ارتفاع معدل الإعالة لكبار السن من 6.8% إلى 9.1% خلال الفترة ذاتها.
وفي هذا السياق، تشير البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2023 إلى أن عدد المؤمن عليهم من العمانيين يبلغ نحو 454 ألفًا، مقابل نحو 157 ألف متقاعد، أي أن هناك نحو 3 مشتركين يمولون متقاعدًا واحدًا ، وهذه معادلة تهدد الاستدامة مستقبلا مع تسارع التحول الديموغرافي.
ورغم أن سلطنة عمان لا تزال حاليًا في مرحلة النافذة الديموغرافية، حيث تشكّل نسبة السكان في سن العمل (15 – 64 سنة) نحو 58% من إجمالي السكان العمانيين في عام 2023، مقارنة بفئة صغار السن وكبار السن بنسبة 38%، 4% على التوالي. وتشير الإسقاطات السكانية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (2025 – 2040)، إلى أن نسبة السكان في سن العمل سترتفع إلى 66% بحلول عام 2040، إلا أن هذه الفرصة مؤقتة وبحسب تقديرات الأمم المتحدة أنها سوف تستمر حتى عام 2040.
في ظل هذه التحديات، يُعد تعزيز سياسات التعمين ورفع إنتاجية الشباب العماني خيارًا استراتيجيًا ضروريًا لضمان استدامة نظام التقاعد واستغلال النافذة الديموغرافية الحالية قبل أن تتحول إلى عبء اقتصادي مع زيادة نسبة كبار السن. ومن أجل مواجهة هذا التحدي، رفعت سلطنة عمان سن التقاعد تدريجيًا من 60 إلى 65 عامًا، كما أشرنا سابقًا.
في الوقت ذاته، يشكل الوافدون نسبة كبيرة من السكان في سن العمل، حيث يُتوقع أن تصل نسبتهم إلى 56% من إجمالي السكان في سن العمل بحلول عام 2040، مقابل 44% من العمانيين. ويمكن النظر إليهم كرافد مكمل للنظام وليس بديلاً عنه، وذلك من خلال ربط إقامتهم طويلة الأمد بالاشتراك الإلزامي في نظام صناديق التقاعد، كما هو معمول به في دول مثل كندا وأستراليا التي تعتمد على سياسة الهجرة الانتقائية، والتي تستهدف استقطاب الكفاءات والمهارات. ويمكن اعتبار هذا التوجه حلًا مستقبليًا يساهم في توسيع قاعدة المشتركين، وتقليل التحويلات المالية إلى الخارج، وتحفيزهم على استقدام عائلاتهم وتوجيه جزء أكبر من مدخراتهم نحو الاستثمار والاستهلاك محليًا، بما يعود بالنفع على النمو الاقتصادي. شريطة أن يصاحبه مراجعة مستمرة لسياسات الاستقدام وقوانين العمل.
ختامًا، يظهر بوضوح أن العجوزات الاكتوارية لصناديق التقاعد هي انعكاس مباشر لتحولات ديموغرافية واقتصادية متسارعة. وقد أكد تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2024، الذي يشير إلى أن التقييمات الاكتوارية لصندوق الحماية الاجتماعية ما تزال جارية، لكن التقديرات الأولية تشير إلى أن النظام مصمم ليستمر في الوفاء بالتزاماته لمدة تصل إلى 100 عام دون الحاجة إلى دعم مالي حكومي مباشر، مما يعكس نقلة نوعية في تعزيز الاستدامة المالية والاجتماعية في سلطنة عمان.
أسماء الجديدية باحثة ومُحللة سكانية، مُهتمة بدراسة التحولات الديموغرافية
إلا أن أنظمة التقاعد في مختلف دول العالم تواجه تحديات متزايدة تتعلق بمدى استدامتها المالية، في ظل ما يُعرف بـ«العجز الاكتواري»؛ وهو الفجوة بين الموارد المالية المتاحة والتزامات الصناديق المستقبلية. ويتفاقم هذا التحدي مع التحولات الديموغرافية، التي تؤثر بشكل مباشر على التوازن المالي للصناديق، لا سيما إذا لم تواكبها إصلاحات وسياسات مرنة تضمن الاستدامة على المدى المتوسط والبعيد.
ويأتي تناول هذا الموضوع بالتزامن مع اليوم العالمي للسكان، الذي يُحتفل به في 11 يوليو من كل عام، وهو يوم أقرّته الأمم المتحدة عام 1989 لرفع الوعي العالمي بالقضايا السكانية وتأثيرها على التنمية المستدامة. حيث يشكل الإنسان محور هذه التنمية. ومن هذا المنطلق، تكتسب استدامة صناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية أهمية بالغة في دعم استقرار المجتمعات وتأمين حياة كريمة للأفراد.
في ضوء ذلك، تبدو الحاجة مُلحّة لفهم الأسس التي تقوم عليها أنظمة التقاعد، وكيف تتعامل مع الضغوط المالية والديموغرافية، خاصة مع توجه الدول، ومن بينها سلطنة عمان، نحو إصلاحات هيكلية تستهدف تعزيز الاستدامة والعدالة بين الأجيال.
كيف تعمل صناديق التقاعد؟ النماذج وآليات التمويل
تتنوع النماذج العالمية في إدارة صناديق التقاعد باختلاف الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وتبعا لذلك تختلف أساليب تمويل هذه الصناديق وآليات صرف المعاشات التقاعدية. ويقوم جوهر عملها على تنظيم العلاقة بين الأجيال، سواء من خلال أنظمة تعتمد على التضامن والتكافل بين العاملين والمتقاعدين، أو من خلال أنظمة فردية تعتمد على مبدأ الادخار والاستثمار.
ووفقا لتصنيف البنك الدولي، تُقسم أنظمة التقاعد إلى ثلاثة نماذج رئيسية: النموذج الأول هو أنظمة المزايا المحددة «Defined Benefit»؛ حيث يحصل المتقاعد على معاش ثابت بناء على عدد سنوات الخدمة ومتوسط الأجر. أما النموذج الثاني، فهو أنظمة الاشتراكات المحددة «Defined Contribution»، والتي تقوم على فكرة «الحصالة» الفردية؛ حيث تُستثمر الاشتراكات بشكل فردي لحساب كل مشترك، ويعتمد المعاش التقاعدي على حجم الادخار والعوائد الاسثمارية المتحققة. في حين يتمثل النموذج الثالث في الأنظمة الهجينة التي تجمع بين مزايا النظامين السابقين، بهدف تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية.
وتعتمد صناديق التقاعد في تمويلها على اشتركات العاملين ومساهمات أصحاب العمل، إلى جانب الدعم الحكومي الذي تقدمه بعض الدول لتعزيز استدامة الصناديق. ويُعد التوازن المالي بين عدد المساهمين النشطين وعدد المتقاعدين عاملا حاسما لاستدامة صناديق التقاعد على المدى الطويل. غير أن هذا التوازن يواجه ضغوطا متزايدة في ظل التحولات الديموغرافية التي تشهدها العديد من دول العالم، خاصة مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الخصوبة، مما يؤدي إلى تقلص المساهمين النشطين الذين يمولون النظام، واتساع قاعدة المستفيدين من العاشات التقاعدية.
وفي هذا السياق، يؤكد صندوق النقد الدولي أن مدى قدرة أنظمة التقاعد على الصمود في وجه الضغوط المالية والديموغرافية يعتمد بشكل كبير على طريقة تصميمها، من حيث آليات التمويل واحتساب المعاشات وتوزيع الأعباء بين الأجيال. فكلما كان النظام أكثر مرونة وتكيفا مع التغيرات السكانية والاقتصادية، زادت فرص استمراره واستدامته على المدى الطويل.
نظام التقاعد في سلطنة عمان .. إصلاحات غير مسبوقة
كان نظام التقاعد في سلطنة عمان قائمًا على تعددية الصناديق التقاعدية التي تخدم مختلف القطاعات الحكومية والعسكرية والخاصة، حيث بلغ عددها 11 صندوقًا مستقلًا. وبالرغم أن عدد سكان سلطنة عمان ليس كبيرًا مقارنة بدول أخرى، فإن توزيع السكان على عدة صناديق تقاعدية متفرقة أدى إلى زيادة الكلفة على كل من العاملين وأصحاب العمل. كما أن التركيبة السكانية تميل إلى فئة الشباب، إلا أن تجزئة النظام إلى صناديق متعددة تسببت في أن بعض هذه الصناديق تواجه تحديات الشيخوخة، حيث يزداد عدد المتقاعدين مقارنة بالمشتركين النشطين، مما فرض على هذه الصناديق رفع نسب الاشتراكات لضمان استمرارية دفع المعاشات التقاعدية.
وقد اعتمد هذا النظام على مبدأ المزايا المحددة «Defined Benefit» المبني على مفهوم التكافل بين الأجيال، حيث تُموَّل معاشات المتقاعدين من اشتراكات العاملين وأرباب العمل، إضافةً إلى الدعم الحكومي. شهدت هذه الصناديق تفاوتًا في شروط التقاعد، سواء من حيث سن التقاعد، أو نسب الاشتراكات، أو طرق احتساب المعاشات، مما أدى مع مرور الوقت إلى ظهور فجوات في العدالة بين المشتركين وتحديات متزايدة في استدامة النظام.
استجابةً لهذه للتحديات المتراكمة، والمتمثلة في اختلال التوازن بين عدد المشتركين والمتقاعدين، وارتفاع التكاليف الناتجة عن تعدد الصناديق وتفاوت شروطها، نفذت سلطنة عمان إصلاحًا هيكليًا شاملًا عبر إصدار المرسوم السلطاني (2023/52)، الذي نص على تأسيس «صندوق الحماية الاجتماعية» ككيان موحد، يدمج جميع الصناديق التقاعدية (المدنية والعسكرية والخاصة) في نظام واحد أكثر مرونة وشمولية واستدامة.
ومن أبرز ملامح هذا الإصلاح، رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 60 عامًا، مع خطة لزيادته بمقدار سنة واحدة كل سبع سنوات حتى يصل إلى 65 عامًا، بما يتماشى مع المتغيرات السكانية ومتطلبات الاستدامة المالية. كما جرى تعديل طريقة احتساب المعاش التقاعدي ليُحتسب على أساس متوسط الأجر طوال فترة الخدمة، بدلًا من آخر راتب أو متوسط آخر خمس سنوات كما كان معمولًا به سابقًا، لتعزيز العدالة بين المشتركين.
في موازاة ذلك، أدخل النظام الجديد برنامجًا ادخاريًا تكميليًا قائمًا على الاشتراكات المحددة (الحصالة)، يُطبق بشكل إلزامي على العاملين غير العمانيين، بينما يُتاح اختياريًا للعمانيين كأداة مساندة لتعزيز مدخراتهم التقاعدية.
ولتعزيز الاستدامة، تضمن النظام الجديد آليات تلقائية لإدارة المخاطر، تسمح له بالتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والديموغرافية استنادًا إلى نتائج التقييمات الاكتوارية الدورية. كما أُقرّ ربط المعاشات التقاعدية بالتضخم للحفاظ على القوة الشرائية للمتقاعدين، مع إبقاء مبدأ التضامن بين الأجيال، وإمكانية تعديل نسب الاشتراكات تدريجيًا حسب الحاجة.
وتقديرًا لهذا التحول النوعي، حصلت سلطنة عمان، ممثلة بصندوق الحماية الاجتماعية، على جائزة الإيسا للممارسات الفضلى لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لعام ٢٠٢٤، التي تمنحها الجمعية الدولية للضمان الاجتماعي (ISSA) تقديرًا للابتكار والتميز في تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية وتحقيق العدالة والاستدامة والكفاءة.
ما تواجهه سلطنة عمان من تحديات في نظام التقاعد ليست حالة استثنائية، بل هو جزء من أزمة عالمية فرضتها التحولات الديموغرافية وارتفاع معدلات الشيخوخة. إذ دفعت هذه التحديات العديد من الدول إلى تنفيذ إصلاحات جذرية لضمان استدامة أنظمتها التقاعدية وتحقيق العدالة بين الأجيال. فعلى سبيل المثال، في هولندا، شرعت الحكومة منذ عام 2019 في تنفيذ إصلاح جذري، يقوم على التحول نحو نظام الاشتراكات المحددة بدلًا من المزايا المحددة، مع الحفاظ على مبدأ تقاسم المخاطر بين الأجيال.
أما دول مثل إيطاليا وفنلندا، فتبنت آلية الربط التلقائي لسن التقاعد بمتوسط العمر المتوقع، بحيث يرتفع سن التقاعد تلقائيًا مع كل زيادة في متوسط الأعمار، لضمان استمرارية التوازن المالي بين الأجيال. وفي السياق الإقليمي، اتجهت المملكة العربية السعودية في عام 2021 إلى دمج المؤسسة العامة للتقاعد مع المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، بهدف تعزيز الكفاءة المالية وتوحيد المزايا بين العاملين في القطاعين العام والخاص.
وتؤكد هذه التجارب بوضوح أن إصلاح أنظمة التقاعد أصبحت ضرورة حتمية لمواجهة تحديات الاستدامة المالية في ظل التحولات الديموغرافية المتسارعة التي يشهدها العالم.
رغم الإصلاح... هل يقود التحول الديموغرافي إلى تفاقم العجوزات الاكتوارية؟؟
تُعد العجوزات الاكتوارية أحد أبرز التحديات التي تواجه نظام التقاعد، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الديموغرافية في أي دولة، إذ تعتمد استدامة نظام التقاعد على التوازن بين فئة المشتركين النشطين وفئة المستفيدين من المعاشات.
وفي سلطنة عمان، تشير المؤشرات السكانية إلى تحولات ديموغرافية متسارعة، فقد انخفض معدل الخصوبة إلى (2.9 مولود لكل امرأة) في عام 2023. ومن المتوقع أن يصل إلى معدل الإحلال (2.1 مولود لكل امرأة) بحلول عام 2030، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، وإذا انخفض معدل الخصوبة دون مستوى الإحلال، فإن البلاد ستواجه على المدى الطويل مسارًا ديموغرافيًا يتجه نحو انكماش سكاني وتقلص أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل مستقبلًا، مما يهدد بتفاقم العجوزات الاكتوارية، إذا لم تُتخذ إجراءات استباقية لمعالجة هذا الخلل. في المقابل، بلغ متوسط العمر المتوقع 77 عامًا في عام 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 80 عامًا بحلول عام 2030 وذلك وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، مما يعكس زيادة متسارعة في أعداد كبار السن، حيث سترتفع نسبتهم من 4% في عام 2023 إلى 5.9% في عام 2040، ويرافق ذلك ارتفاع معدل الإعالة لكبار السن من 6.8% إلى 9.1% خلال الفترة ذاتها.
وفي هذا السياق، تشير البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2023 إلى أن عدد المؤمن عليهم من العمانيين يبلغ نحو 454 ألفًا، مقابل نحو 157 ألف متقاعد، أي أن هناك نحو 3 مشتركين يمولون متقاعدًا واحدًا ، وهذه معادلة تهدد الاستدامة مستقبلا مع تسارع التحول الديموغرافي.
ورغم أن سلطنة عمان لا تزال حاليًا في مرحلة النافذة الديموغرافية، حيث تشكّل نسبة السكان في سن العمل (15 – 64 سنة) نحو 58% من إجمالي السكان العمانيين في عام 2023، مقارنة بفئة صغار السن وكبار السن بنسبة 38%، 4% على التوالي. وتشير الإسقاطات السكانية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (2025 – 2040)، إلى أن نسبة السكان في سن العمل سترتفع إلى 66% بحلول عام 2040، إلا أن هذه الفرصة مؤقتة وبحسب تقديرات الأمم المتحدة أنها سوف تستمر حتى عام 2040.
في ظل هذه التحديات، يُعد تعزيز سياسات التعمين ورفع إنتاجية الشباب العماني خيارًا استراتيجيًا ضروريًا لضمان استدامة نظام التقاعد واستغلال النافذة الديموغرافية الحالية قبل أن تتحول إلى عبء اقتصادي مع زيادة نسبة كبار السن. ومن أجل مواجهة هذا التحدي، رفعت سلطنة عمان سن التقاعد تدريجيًا من 60 إلى 65 عامًا، كما أشرنا سابقًا.
في الوقت ذاته، يشكل الوافدون نسبة كبيرة من السكان في سن العمل، حيث يُتوقع أن تصل نسبتهم إلى 56% من إجمالي السكان في سن العمل بحلول عام 2040، مقابل 44% من العمانيين. ويمكن النظر إليهم كرافد مكمل للنظام وليس بديلاً عنه، وذلك من خلال ربط إقامتهم طويلة الأمد بالاشتراك الإلزامي في نظام صناديق التقاعد، كما هو معمول به في دول مثل كندا وأستراليا التي تعتمد على سياسة الهجرة الانتقائية، والتي تستهدف استقطاب الكفاءات والمهارات. ويمكن اعتبار هذا التوجه حلًا مستقبليًا يساهم في توسيع قاعدة المشتركين، وتقليل التحويلات المالية إلى الخارج، وتحفيزهم على استقدام عائلاتهم وتوجيه جزء أكبر من مدخراتهم نحو الاستثمار والاستهلاك محليًا، بما يعود بالنفع على النمو الاقتصادي. شريطة أن يصاحبه مراجعة مستمرة لسياسات الاستقدام وقوانين العمل.
ختامًا، يظهر بوضوح أن العجوزات الاكتوارية لصناديق التقاعد هي انعكاس مباشر لتحولات ديموغرافية واقتصادية متسارعة. وقد أكد تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2024، الذي يشير إلى أن التقييمات الاكتوارية لصندوق الحماية الاجتماعية ما تزال جارية، لكن التقديرات الأولية تشير إلى أن النظام مصمم ليستمر في الوفاء بالتزاماته لمدة تصل إلى 100 عام دون الحاجة إلى دعم مالي حكومي مباشر، مما يعكس نقلة نوعية في تعزيز الاستدامة المالية والاجتماعية في سلطنة عمان.
أسماء الجديدية باحثة ومُحللة سكانية، مُهتمة بدراسة التحولات الديموغرافية