ترجمة: أحمد شافعي -

حلَّت يوم الجمعة الماضي الذكرى الثلاثون لأبشع مجزرة عرفتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حينما اجتاحت القوات البوسنية الصربية بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش منطقة كان يفترض أنها خاضعة لحماية الأمم المتحدة، ثم تقدمت بعد فترة قصيرة فأعدمت ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة، رجالها وصبيانها.

أصابت المجزرة، بحجمها وشدتها، العالم بصدمة وأفضت إلى محاكمات دولية، بما جعلها من المرات النادرة التي حوكمت فيها إبادة جماعية منذ الهولوكوست. وجهت المحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة الاتهام لمائة وواحد وستين شخصا وأصدرت أوامر بحبسهم. فأدين منهم قرابة تسعين، منهم ملاديتش ورادوفان كاراديتش الزعيم السياسي البوسني الصربي، وكلاهما أدين في جرائم منها الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا.

لعبت المحاكمات دورا مهما في معاقبة أولئك القائدة وتنحيتهم عن المشهد، وإفرادهم بالذنب بدلا من توجيه لوم جماعي، في إعادة تأكيد لسيادة القانون وإبداء الاحترام للضحايا.

لكن سريبرينيتشا تبين أيضا حدود القانون، وبخاصة حينما تعجز المجتمعات عن الاعتراف بهذه الأعمال الوحشية وتقليص الكراهية التي أفضت إليها. وفي هذا دروس لمحاكمات أخرى محتملة بشأن صراعات أقرب عهدا أو هي قائمة بيننا، من غزة إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.

اليوم، يمثل إنكار إبادة سريبرينيتشا الجماعية سياسة معيبة تتبعها جمهورية صرب البوسنة، وهي جزء من البوسنة والهرسك يغلب عليه السكان الصرب، وفيه حدثت المقتلة. يلقى مجرم الحرب المدانون احتفاء علنيا من البعض. وفي منهج مدرسي حديث لمادة التاريخ تصوير لملاديتش وكاراديتش بوصفهما بطلين وحذف لإدانتيهما. وفي صربيا المجاورة، يرفض الرئيس ألكسندر فوتشيتش مصطلح «الإبادة الجماعية»، برغم إدانات المحكمة الدولية والحكم الموازي من محكمة العدل الدولية.

وتأتي أعلى أصوات الحق من أمهات سريبرينيتشا. فهؤلاء النساء، وكثيرات منهن فقدن أسرا كاملة في المجزرة، قضين عقودا يطالبن بمحاسبة كاملة عما جرى. ولا يزلن ينتظرن من مجتمعهن ـ أي جيرانهن ـ أن يعترف بما جرى لأحبائهن. ويتعرضن للتحرش والتهديدات. وبعضهم لا يزلن ينتظرن أن يدفنّ أمواتهن.

وتمثل رواندا إخفاقا خطيرا بصفة خاصة لعدم اعتراف بالانتهاكات. فقد حققت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، شأن نظيرتها اليوغسلافية، نجاحا مؤزرا. إذ حاكمت الجناة في إبادة التوتسي الجماعية سنة 1994 على أيدي قوات المتطرفين الهوتو، وأدانت وحكمت على أكثر من ستين فردا منهم رئيس الوزراء جين كمباندا وعقيد الجيش الذي كان العقل المدبر للإبادة الجماعية ويدعى ثيونستي باجوسورا.

لكن المحكمة عجزت عن محاكمة أعضاء جبهة رواندا الوطنية، وهي جماعة متمردة أنهت الإبادة الجماعية وتولت السلطة، بسبب أعمالها الوحشية الخاصة بها. ففي ظل قيادة زعيمها بول كجامي الذي مضى فأصبح أطول رؤساء رواندا بقاء في الحكم، أعدمت الجبهة ما يقدر بثلاثين ألف شخص وفق بعض التقديرات خلال وقفه للإبادة الجماعية وبعد ذلك.

قاوم كجاني كل جهد من المحكمة الدولية لمحاكمة قواته عن أعمال القتل الجماعي، ومضى إلى حد التهديد بعدم التعاون مع محاكمات الإبادة الجماعية في حال تجاسر المحكمة. وفي رواندا الآن قد يفضي محض التعرض بالنقاش لتلك الأعمال الوحشية ـ بل وأي انتقاد علني لحكم كجامي الدكتاتوري ـ إلى السجن.

مجترئا بحصانته، يرأس كجاني دولة بوليسية في الداخل ويقوم دوريا بغزو شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بهدف التنقيب عن معادنها. وقد فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا في أحدث جولة من الأعمال الوحشية في الكونغو لكنها لم توجه حتى الآن اتهاما لأي مسؤول رواندي. وثمة مزاعم بأن القوات الإسرائيلية دأبت في غزة على ارتكاب جرائم حرب ممنهجة وتواجه اتهامات بارتكاب إبادة جماعية. وقد أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر باتخاذ إجراءات للحيلولة دون الإبادة الجماعية، ووجهت المحكمة الجنائية الدولية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت اتهامات بتعمد تجويع الشعب الفلسطيني وحرمانه.

فلم تقابل الحكومة الإسرائيلية ذلك بغير الازدراء، وتجاهلت أوامر محكمة العدل الدولية وهاجمت المحكمة الجنائية الدولية واصفة إياها في عبث بـ«معاداة السامية». وجاء الرئيس ترامب فعزز هذا الخروج على القانون بفرضه في غضب عقوبات ثأرية على قاضي المحكمة الجنائية الدولية الذي وجه الاتهام للمسؤولين الإسرائيليين، وعلى العديد من القضاة. وليس هذا فقط تعزيزا للحصانة من المعاقبة على الأعمال الوحشية الجماعية، ولكنه يعوق أيضا آفاق السلام الإسرائيلي الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

في بعض حالات العدالة الدولية السابقة، من قبيل محاكمات نورمبرج ومحاكمات طوكيو اللتين تولتا فظائع الألمان واليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية، تظهر تعقيدات مقاضاة جرائم الحرب. فالحالتان المذكورتان اعترتهما الانتقائية، إذ تغاضتا عن جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الحلفاء المنتصرين، واقتصرت عملية القضاء على النازية في حدود الحرب الباردة، ودور، وحدث تجاهل عمدي لدور الإمبراطور هيروهيتو في الحرب، ومع ذلك كله أصبحت المحاكمتان سابقة مهمة للمحاسبة.

غير أن ردي فعل ألمانيا واليابان كانا شديدي الاختلاف. فقد اعترفت الحكومة الألمانية في نهاية المطاف بدورها في الهولوكوست. وثمة نصب تذكاري للملايين الستة من الضحايا اليهود مقام في موضع مشهود في وسط برلين، وتحدد ألمانيا في كل عام يوما ثابتا لتذكر الهولوكوست. في المقابل، أخفت اليابان ما حدث. إذ درج كبار الساسة في اليابان على زيارات دورية لضريح ياسوكوني احتراما لموتى اليابان في الحرب.

ولعل اختلاف رد الفعل هذا قد أثر على الدورين الدوليين المتمايزين اللذين تعلبهما الآن الحكومتان الألمانية واليابانية. إذ تبرز ألمانيا بوصفها صوتا رائدا في قضايا حقوق الإنسان في أوروبا والعالم. أما اليابان في المقابل فصارت مثالا للتحفظ، وبخاصة في ما يتعلق بالوقوف في وجه الجيران الإقليميين القمعيين من قبيل الصين وكمبوديا وميانمار. وفيما يجتمع العالم لتكريم ضحايا سريبرينيتشا، فإن ما يغيب إلى الآن هو الاعتراف الصادق بأن إبادة جماعية قد جرت. وفي حين أن صربيا وجمهورية صرب البوسنة قد أصدرتا اعتذارات على مر السنين، فلم تقبل أي منهما حكم المحكمة - وكلتاهما تواصل تمجيد مجرمي الحرب وإنكار الإبادة الجماعية، حتى بعد مرور ثلاثين سنة. لقد كان ينبغي أن تكون سريبرينيتشا مثالا لمحاسبة ما بعد الإبادة الجماعية، لكنها بدلا من ذلك تبرز بوصفها مثالا لقدرة الحقيقة القانونية ـ في غياب الاعتراف الرسمي والمجتمعي ـ على ترسيخ القومية الإقصائية. وبالتوازي مع السعي إلى العدالة، لا بد من أن تضغط الدول والمنظمات الدولة على الدولة والقادة السياسيين للاعتراف بأخطاء حكوماتهم. ولا بد من أن يضغطوا من أجل إعلان ممنهج للحقيقة من خلال التعليم والتذكر، وبإصدار الاعتذارات العلنية، وبإصلاح مناهج التعليم، وبإزالة الأنصاب المقامة لمجرمي الحرب ودعم التذكر المجدي. وهذه خطوات سياسية لازمة لمنع الجناة من إعادة كتابة الحكاية، حتى تضرب العدالة بجذورها وتمهد الطريق لمجتمعات تحترم الحقوق.

دنيا مياتوفيتش خبيرة بوسنية في مجال حقوق الإنسان ومفوضة سابقة لحقوق الإنسان في مجلس أوروبا

كينيث روث المدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، أستاذ زائر في كلية الشؤون العامة والدولية بجامعة برينستون.

خدمة نيويورك تايمز