ترجمة - قاسم مكي -

مرة أخرى شرع دونالد ترامب في توجيه انتقاد حاد لجيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) متهما إياه بالإبقاء على أسعار الفائدة عند ارتفاع مصطنع. كما وصفه بالشخص السيئ. ورغم محاجَّة ترامب في الماضي بأن الرئيس الأمريكي يمكنه بموجب القانون «إقالة» رئيس البنك الفيدرالي إذا اختلفا حول السياسة النقدية لكن من المؤكد تقريبا أن تثير نزاعا أمام المحاكم يشارك فيه باول بنفسه.

على أية حال، لأن الفترة القانونية الثانية لرئاسة بأول ومدتها أربع سنوات تنتهي في مايو 2026 ستتاح لترامب قريبا فرصة تسمية خليفته في البنك. ونظرا إلى هجمات ترامب التي لا هوادة فيها على باول منذ توليه سدة الحكم من المؤكد تقريبا أن قدرة مرشحه على مقاومة الضغوط التي يتعرض لها من البيت الأبيض ستُراقب عن كثب بواسطة الكونجرس والأسواق المالية.

عمل البنك يقوم على ما يعرف بالاستقلال «الأداتي» والذي يعني أنه يمكنه رفع أو خفض أسعار الفائدة أو شراء أو بيع سندات الخزانة دون تدخل من البيت الأبيض أو مصادقة مسبقة من الكونجرس الذي أوجد البنك بإجازة قانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913. (أسعار الفائدة وسندات الخزانة هما «أداتا» السياسة النقدية التي يشرف عليها البنك المركزي – المترجم).

يكشف التاريخ أن البنوك المركزية التي تحظى بالحماية من التدخل السياسي تحقق نتائج اقتصادية أفضل (بما في ذلك معدل تضخم أقل) من البنوك الأكثر استجابة للضغوط السياسية.

يستمد بنك الاحتياطي الفيدرالي استقلاله من ضمانات حماية قانونية مهمة إحداها أن محافظي البنك يتم تعيينهم لمدة 14 عاما في تواريخ متفاوتة (لا يتم تعيينهم دفعة واحدة لضمان استمرارية واستقلالية إدارة السياسة النقدية). هنالك ضمانة أخرى وهي النص على أن المحافظين يمكن فصلهم بواسطة الرئيس الأمريكي لسبب «وجيه أو قانوني» فقط وغالبا ما يتم تعريفه بعدم الكفاءة والإهمال وسوء التصرف المتعمد وغير القانوني أثناء أداء مهام الوظيفة. القصد من ذلك ضمان عدم استطاعته فصلهم فقط لخلافات تتعلق بالسياسة النقدية.

هذه الحماية للهيئات المستقلة في الولايات المتحدة والتي أوجدها الكونجرس أقرّتها المحكمة العليا في قضية منفِّذ وصية همفري ضد حكومة الولايات المتحدة في عام 1935. (رفضت المحكمة العليا محاولة إقالة وليام همفري عضو لجنة التجارة الفيدرالية بواسطة الرئيس الأمريكي روزفلت لمعارضته سياسة «النيو ديل» وقتها. على أساس أن الرئيس لا يملك سلطة فصل أعضاء الهيئات المستقلة بدون سبب قانوني. توفي همفري قبل بت المحكمة في القضية وتابع منفذ وصيته سيرها حتى صدور الحكم- المترجم).

بموجب القانون تُتَّخذ قرارات السياسة النقدية الخاصة بالبنك الفيدرالي ليس بواسطة رئيس البنك بمفرده ولكن بأغلبية أصوات أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة. أسست هذه الهيئة المركزية لاتخاذ القرار بواسطة الكونجرس. وهي ليست لجنة «اسما» فقط. لقد شُكِّلت للحد من سلطة أي فرد في وضع السياسة النقدية. وتتشكل هذه اللجنة من 7 محافظين (أعضاء مجلس محافظي البنك) يعينون بواسطة الرئيس الأمريكي ويصادق على تعيينهم مجلس الشيوخ وخمسة رؤساء للبنوك الاحتياطية الفيدرالية الإقليمية الإثني عشر. وتختار هؤلاء الرؤساء الخمسة البنوكُ المركزية في مناطقهم وليس رئيس الولايات المتحدة.

المهددات المحتملة لاستقلال الفيدرالي تأتي من مصدرين هما المحاكم وعملية المصادقة على مرشحي الرئيس. تتخذ وزارة العدل في الفترة الثانية لرئاسة ترامب تتخذ موقفا رسميا في قضايا كثيرة (بما في ذلك قضية تتعلق بالمجلس الوطني لعلاقات العمل وأخرى بمجلس حماية أنظمة الجدارة. وهو موقف تقضي به عمليا على قرار المحكمة العليا في عام 1935. ففي نظر الوزارة مثل هذه الحماية قيد غير دستوري على «وحدة» السلطة التنفيذية لرئيس الولايات المتحدة.

وإذا اتخذت المحكمة العليا قرارا بإلغاء الحكم في قضية منفِّذ وصية همفري سيعني ذلك إنهاء استقلال البنك الفيدرالي على النحو الذي نعرفه إلا إذا منحت المحكمة استثناء خاصا لمحافظي الفيدرالي. وما له دلالة أن المحكمة فعلت ذلك بالضبط في حكم صدر يوم 22 مايو. فقد سمحت لدونالد ترامب بفصل أعضاء المجلس الوطني لعلاقات العمل ومجلس حماية أنظمة الجدارة دون حاجة إلى «سبب قانوني» لكنها رفضت الحجة القائلة أن الحكم يشمل ضمنا البنك الفيدرالي حيث أوضحت كتابةً أن الفيدرالي «كيان شبه خاص وله بنية فريدة ويحذو حذو التقليد التاريخي المميَّز للبنكين الأول والثاني للولايات المتحدة».

المهدد الممكن الثاني لاستقلال البنك هو أن يتصرف من سيخلف باول أو يُعتبر أنه يتصرف تحت تأثير البيت الأبيض. على الرغم من أن تسييس رؤساء البنك للسياسة النقدية ليس غريبا (مثلما حدث عندما خضع البنك تحت رئاسة آرثر بينز لضغوط الرئيس ريتشارد نيكسون بخفض سعر الفائدة) إلا أن هنالك ضوابط وتوازنات في النظام تحدُّ من ذلك الخطر اليوم.

أولا، لأن رئيس البنك يدلي بصوت واحد فقط من جملة 12 صوتا في اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة لا يمكنه أن يتصرف كمُستبدّ. وإذا حاول رئيس جديد للبنك اتباع سياسة يتضح عمليا أنها غير متسقة مع التفويض الممنوح بواسطة الكونجرس والذي يقتصر على تثبيت الأسعار وتحقيق أقصي قدر من التوظيف فمن الممكن رفض مثل هذه السياسة بغالبية الأصوات بما في ذلك صوت باول نفسه إذا اختار أن يبقى عضوا في مجلس المحافظين حتى نهاية فترته كمحافظ في عام 2028. وهذا خيار محتمل لعدم استبعاده له علنا.

إلى ذلك، مصادقة مجلس الشيوخ على المرشح لتولي رئاسة البنك حتى في ظل إدارة ترامب ليست شكلية. فعلى الرغم من أن أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين سيميلون إلى تأييد اختيار الرئيس إلا أن المشرِّعين يتعاملون مع المصادقة على التعيينات بجدية بالغة. وبكل المقاييس يوجد تأييد قوى من كلا الحزبين في مجلس الشيوخ لبقاء رئيس البنك المركزي مستقلا سياسيا.

سوق السندات لديها أيضا دور في ذلك. فإذا رأت الأسواق أن المرشح لرئاسة البنك غير ملتزم تماما بإعادة التضخم إلى المعدل المستهدف وهو 2% من المحتمل أن ترتفع عائدات السندات وأن تشير أيضا معايير السوق إلى ارتفاع حاد لمعدل «تعادل التضخم» وهو الفرق بين عائدات السندات العادية والسندات المحمية. ذلك سيعقد عملية المصادقة على التعيين إذا تلطفنا في التعبير. (هذا المعدل يستخدمه المستثمرون للمفاضلة في الاستثمار بين السند العادي أو السند المحمي من التضخم - المترجم).

أخيرا ربما أحد أقوى الموانع لِتَسْيِيس بنك الاحتياطي الفيدرالي خشيةُ رئيس البنك من أن يحكم عليه المؤرخون والاقتصاديون بالفشل. فمطالعة غير متعمقة لصفحات التاريخ تقنع أي متطلع لرئاسة البنك بأنه سيحكم عليه أساسا وفي المقام الأول بمدى نجاحه في الوفاء بتفويض البنك بضمان استقرار الأسعار. والتاريخ لن يكون رحيما به إذا فشل في ذلك.

ريتشارد كلاريدا أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا وعضو منتدب بشركة بيمكو. شغل منصب نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الفترة من 2018 إلى 2022

الترجمة عن الإيكونومست