أتاح لي برنامج إصدارات عمانية الذي أعده وأقدمه على أثير إذاعة سلطنة عمان العامة محاورة القاص الذي عُرف شاعرًا شعبيًّا محمد الصالحي. مع ذلك لا يبدو أن القاص قد تخلى عن عين الشاعر التي ترى العالم بحساسية خاصة. نشرت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع منشورات جدل في الدمام مطلع هذا العام مجموعة قصصية للصالحي عنوانها «صائد النوارس» مشغولة في معظم نصوصها بالبحر، ساحل الباطنة، تحديدًا قرية الخضراء في السويق التي انتقل منها الكاتب بعد مشروع الباطنة الساحلي لسيح من سيوح نبتت فيها بيوت المهاجرين «الساحليين».

وبحر الصالحي حيث نوارسه، الدفوف التي تُعزف بجانبه، الموتى الذين يلفظهم البحر، أو الذين يموتون حسرة من عدم القدرة على رؤيته، الأسماك التي تلتقطها السنارات، أغنية سالم علي يغني فيها «العمانيون أسياد البحار»، القبطان البعيد، المرساة وهي تُلقى في جزر بعيدة مثل جزيرة بوكيت، بعيدة عن ساحل البحر في السويق، مسقط رأس المسافر.

مع ذلك يعود من البحر مرة معلّمًا في المدرسة وهي وظيفته، أو طالبًا يتعرف على العالم من صفوف مدارس الثمانينات بكل تعقيدات زمنها، رغم توبيخه في المدرسة على ميله العروبي، إلا أن هذا تحديدًا سيرسّخها في هويته إلى الأبد، في فصل «قم للمعلم» يغني الصالحي تارة طالبًا، وأخرى معلّمًا، إلا أن كليهما ينظران للعالم من زاوية شفافة مرهفة، تعكسُ ما لا يُقال، بالتأمل الثاقب المستغرق في القصص اليومية.

لكن ذلك التأمل والإخلاص لأحلام اليقظة لم يمنعا الصالحي من النظر للواقع والاشتباك معه، في تلاقٍ يدل على موهبة خاصة. ويتضح ذلك بصورة كبيرة في فصل المجموعة القصصية الأخير، وعنوانه: «من يعش يرَ»، نقرأ فيه عن الجندي الذي يقتله الوفاء في المعركة، والرائحة التي تبقيها الجدة الراحلة لطفل صغير حزين تصبح موضوعًا للحداد. أما الطفل العاجز لإعاقته فكان قبل فقدان الرائحة يركض، يركض، يركض. ونجد أن الصالحي يقص دون وعظ، بل بسخرية طريفة أحيانًا هموم أهله، ذاك الذي سُرّح من العمل، أو سائق التاكسي الفقير، يزداد فقرًا كل يوم. كما يؤثث القصص بحضور المهمشين العمال الآسيويين بلهجتهم الخاصة، أو التي يعتبرها بعض الباحثين اليوم لغة أخرى، عربية أخرى.

تحتفي القصص بالمعجم البحري لساحل الباطنة محاولًا أن يقول: إن البحر، هذا البحر، خاصٌ بأهله فحسب، يعرفونه بلغته التي هي لغتهم. وفي جانب آخر يحوّل الصالحي أساطير شعبية؛ لتكون عنصرًا من قصص متخيلة، ربما تصبح بعد بعض الوقت هي المتن الذي يثير المثل الشعبي. أتذكر هنا رواية رالف رزق الله في المرآة لربيع جابر، التي تحكي عن قصة انتحار رجل هو رالف رزق من صخرة في الروشة، أصبحت الروشة ورواية جابر هما مدخل سرد تاريخ المكان، فاللبنانيون يقولون لك: هنا انتحر رالف رزق الله، ربيع جابر. وسعود السنعوسي في روايته الأحدث، والتي تأتي في ثلاثية «أسفار مدينة الطين». وقد استخدم فيها تهويدات وأمثالًا شعبية كويتية، إلا أنه تخيّل قصصًا نشأت فيها تلك الأمثال والحكايات، حتى أن كثيرًا من القراء ظنوا أن القصص التي حكاها السنعوسي هي مصدر التهويدات والأمثال التي يعرفونها، لكنها لم تكن كذلك؛ إذ هي متخيلة تمامًا. في «صائد النوارس» يلتقط الصالحي مقولة شعبية أيضًا، وهي أنه كلما أصبح مدّ البحر أحمر يقول سكان الخضراء: «هذا دم البانيان». ولا تُعرف القصة التي أنتجت هذه العبارة، إلا أنها متداولة. يخترع الصالحي قصة «مبارك البانيان» متخيّلًا عالمًا تكبر فيه تلك المقولة لتبقى.

يتعلق الكاتب العماني، خصوصًا القادم من قرى الباطنة البحرية، بسواحل قراهم. ولعل أبرز الأسماء التي «شعرنَت» هذا الساحل، الشاعر والأديب والسينمائي عبدالله حبيب، فلا يغيب طيف مجز الصغرى وبحرها عن كتاباته، وتلحُّ في تنويعات لا يخلقها إلا المبدع، فيصبح ذلك البحر خالدًا لا بسبب من طبيعته، بل لأن العين التي تراه تُقلِبه، مرة على بطنه وأخرى على ظهره، ثم تقول: إن للبحر أطرافًا أخرى، حواشي ساكنة، لولا أن هذه العين لا تُخدع بالصخب وحده، وتهدُّ ذلك السكون، لكن عبر الشعر أكثر عوالم الأرض أمانًا ورقّة.

من المهم أن نشير إلى أن الصالحي في هذه المجموعة آمن بدور المحرر؛ إذ إن القصص حرّرها الكاتب والإعلامي سليمان المعمري. لعلّ هذا يثير مرة أخرى سؤال حضور المحرر الأدبي في صناعة النشر العربية جدواها، وفيما إذا كانت تمنع النص من أن يعكس أسلوب كاتبه وطريقته، أو أنها تسهم في أن تُظهِر الكاتب بعدما تتوقف عن النظر للكلمات لفرط التعامل معها، ما يستدعي عينًا نظيفة من الخارج.

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية