عبد الوهاب المسيري .. مسيرة فكرية رائدة ( 3) - يعتبر مصطلح العلمانية من المصطلحات التي اختلف حوله، حيث تتعدد المفاهيم في تفسيره وتعريفه، وله دلالات تاريخية عميقة الجذور في الفكر المجتمع الغربي، وبقضية الصراع الذي قام بين الكنيسة والمذاهب الوضعية الفلسفية في أوروبا، في القرن الثامن عشر والتاسع، في خضم هذا الصراع بين السلطة الدينية والسلطة اللادينية التي عرفتها أوروبا في تلك الحقبة ولذلك نجد أن دائرة المعارف البريطانية عرفت العلمانية بأنها «وجاء في قاموس أكسفورد شرحاً لكلمة «SECULER» بأنها تعني:«دنيوي» أو «مادي» ليس دينياً ولا روحياً ـ السلطة اللادينية ـ الحكومة المناقضة للكنيسة حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا». وللدكتور عبد الوهاب المسيري رؤية أخرى في هذا الأمر، بحكم اهتمامه بمسألة وبحوثه العميقة في الفكر والفلسفات الغربية عموماً، ففي كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، يرى د.المسيري أن العلمانية «علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تُنزع القداسة عن العالم ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى». ويرى د.المسيري عن التعريفات الشائعة عن العلمانية أنها لا تعطي الصورة المتكاملة عن العلمنة، لكن تعريف العلمانية: «باعتبارها فصل الدين عن الدولة، هو أكثر التعريفات شيوعاً للعلمانية في العالم العربي، سواء في الغرب أو الشرق، والعبارة تعني حرفياً «فصل المؤسسات الدينية (الكنسية) عن المؤسسات السياسية «الدولة»، وهي تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الاقتصادي أيضاً (وفي بعض المجالات في رقعة الحياة العامة)، وتستبعد شتى النشاطات الإنسانية الأخرى أو تلزم الصمت بخصوصها، أي أنها تشير إلى العلمانية الجزئية وحسب» ويشير د.عبد الوهاب المسيري إلى هذه المنطلقات للعلمانية، فيرى أن «ثمة تمييزا هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) وبين الحرب والخديعة (أي آليات إدارة المعركة العسكرية التي تخضع لإدراك ملابسات اللحظة)، أي أن ثمة تمايزًا بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية (ومما له أعمق الدلالة في هذا الشاهد أن المسلمين كسبوا هذه المعركة). ومع تَزايُد تركيبة الدولة الإسلامية (مع الفتوحات والمواجهات)، تزايد التمايز بين المؤسسات وتَزايَد الفصل فيما بينها». ومن ثَمَّ ـ بحسب د. المسيري ـ فإن فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة عملية ليست مقصورة على المجتمعات العلمانية بأية حال، وإنما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال. و«الدولة» هنا تعني ـ في واقع الأمر ـ بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني مثل الجوانب البيروقراطية في إدارة الدولة، أو شراء نوع معيَّن من الأسلحة، أو مناقشة أمور فنية تتصل بالميزانية العامة. وهي أمور لا يعرفها سوى الفنيين، ولذا، فليس بإمكان رجال الدين (مشائخَ كانوا أم قساوسة) أن يُفتوا فيها، بل إن أستاذًا في الأدب الإنجليزي ومتخصصًا في اليهودية والصهيونية (مثل كاتب هذه السطور) يعرف تماما أن هذا أمر لا ناقة له فيه ولا جمل! ولذا يتحدث بعض أصحاب هذا التعريف (من أنصار العلمانية الجزئية) عن أنه لا تَعارُض في واقع الأمر بين العلمانية والتدين، وأن بإمكانهما التعايش معًا. وهو أمر ممكن بالفعل إذا كان المعنى هو مجرد تمايز بعض جوانب المجال السياسي والاقتصادي عن المجال الديني، وإبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسسات صنع القرار السياسي. وأعتقد أن كثيرًا ممن يتصورون أنهم أعداء للعلمانية سيقبلون هذا الفصل أو التمايز، إذا ما تأكدوا أن العلمانيةَ (فصلَ الدين عن الدولة) مسألة تنطبق على الآليات والإجراءات الفنية وحسب، ولا تنطبق بأية حال على القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع والدولة. أي أن من الممكن أن يقبلوا فصل بعض جوانب المجال السياسي والاقتصادي ـ بل بعض جوانب السلوك الإنساني ـ عن الدين، طالما أن المرجعية النهائية هي مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية النسبية المادية. وكما يقول المسيري في هذا التعريف والتمييز في مسألة الفصل، ومع هذا حصر البعض نطاق العلمانية في هذه الدائرة الضيقة، دائرة فصل الدين عن الدولة وحسب، واستبعدوا الدائرة المعرفية المرجعية الأشمل، وتعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح، إذ لابد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل. وقد أدى هذا إلى خلل كبير، إذ إن مصطلح «علمانية» عُزل عن أية مرجعية نهائية، وأصبح يشير إلى مجموعة من الإجراءات وكأن الأمر حُسم بهذه الطريقة، مع أن هذه الإجراءات يختلف مدلولها باختلاف مرجعيتها، ولا يتحدَّد معنى المصطلح إلا بالعودة لها. وقد أصبح هناك من يستخدم مصطلح «علمانية» مشيراً إلى عملية فصل الدين عن الدولة في إطار غير مادي، وهناك من يستخدمها للإشارة إلى عملية الفصل باعتبارها تجليا لمنظومة مادية نسبية «كما سنبين فيما بعد». وكلاهما يستخدم الكلمة نفسها وكأنها تعني الشيء نفسه. والأسوأ من هذا، أن هناك من يبدأ متصوراً «أو زاعماً» أنه يتحرك داخل الدائرة الصغيرة الجزئية وأنه لا شأن له بقضية المرجعية، وينتهي به الأمر إلى الدائرة الأشمل حيث يتصدى للأمور الكلية والنهائية المرجعية. والعلمانية، كما يحددها د. عبدالوهاب المسيري، في رؤيته المتخصصة عن العلمنة «ليست ظاهرة اجتماعية أو سياسية محددة واضحة المعالم تتم من خلال آليات واضحة (مثل إشاعة الإباحية) يمكن تحديدها بدقة وبساطة). كما أنها ليست ـ كما يتصور البعض ـ أيديولوجية أو حتى مجموعة من الأفكار التي صاغها بعض المفكرين العلمانيين الغربيين، وأن هذه الأفكار نشأت في أوروبا بسبب طبيعة المسيحية، باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وأنه للتحقق من معدلات العلمنة في مجتمع ما، فإن على الباحث أن يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ومؤشراتها الظاهرة، فإن وجدها، صُنِّف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً، وإن لم يجدها فهو، بكل بساطة، مجتمع إيماني! وانطلاقاً من هذا التصور الاختزالي تصبح مهمة من يود التصدي للعلمانية هي البحث عن هذه الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية «الواضحة» وعن القنوات التي يتم من خلالها نقلها. ومهمة من يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، عن طريق إصدار تشريعات سياسية معينة وفرض رقابة صارمة على الصور والأفكار الواردة من الخارج. إن مَن يدرس ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة، يتجاهل الكثير من جوانبها وبالتالي يفشل في رصدها. إن مصطلح «علمانية» كما هو متداول لا يشير إلا إلى هذه الجوانب الواضحة و الظاهرة التي أشرنا إليها، فهو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وتشمل كل جوانب الحياة، العامة والخاصة، الظاهرة والباطنة، وقد تتم هذه العمليات من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى. والإشكالية كما يرى د. عبد الوهاب المسيري في كتاب ( العلمانية تحت المجهر) ـ حوارات لقرن جديد مع د. عزيز العظمة «إن انتقال مصطلح العلمانية إلى الوطن العربي، أصبح أكثر اضطراباً واختلالاً، منذ ما يسمى «عصر النهضة» في تاريخ الفكر العربي ومعظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند منه معظم مصطلحاتنا إن لم يكن كلها، وقد استوردنا مصطلح «علمانية» فيما استوردنا منه، وحينما يُنقل مصطلح مثل هذا من معجم حضارة آخر وتتم «ترجمته»، فإنه يظل يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق، الذي يظل ـ كما يرى د. المسيري ـ مرجعية صامتة للمصطلح، فدلالة هذا المصطلح لا تتحدد إلا بالإشارة إلى المعجم الحضاري الأصلي، أي الغربي. ويمكننا أن نضيف، كما يشير الدكتور المسيري بكل صراحة، أننا رغم محاولتنا الجاهدة الجامدة الدائبة في اللحاق بركب الغرب ومواكبته، فإن المصطلحات التي نستوردها (مثل الاستنارة ـ التقدم ـ التحديث ـ العقل) تشير إلى معنى الكلمات كما وردت في المعجم الغربي ( اللغوي والحضاري) حتى منتصف أو أواخر القرن التاسع عشر وحسب، ولم يتسع لها معجمنا الدلالي كما حدث في الغرب، ولذا فإن مصطلحاتنا بريئة تماماً من كل المشاكل التي ظهرت بعد تحقق المتتالية الترشيدية والتحديثية المادية والعلمانية الشاملة الغربية، ولذا ظلت مصطلحات بسيطة أحادية البُعد تشع تفاؤلاً لا أساس له في الواقع، واصطلاح «علمانية» لا يشكل أي استثناء لهذه القاعدة، فنحن نتحدث عنها على طريقة فولتير ولوك وكوندورسيه وغيرهم من الفلاسفة التبسيطيين الاختزاليين، وكأننا لا زلنا في بداية المتتالية لم نشاهد بعد كل حلقاتها المركبة والمتداخلة والتي فاجأت الجميع (الدعاة إليها والرافضين لها). وفي النهاية، كما يقول د. المسيري، إن تجربة العرب والمسلمين، مع متتالية العلمنة مختلفة، فعمليات العلمنة لم تنبع من واقعهم التاريخي والاجتماعي، وإنما أتى بها الاستعمار الغربي، وفرضها فرضا عليهم وعلى غيرهم، ومع هذا نستمر في استخدام المصطلح بمرجعيته الغربية، والتي تفترض المتتالية الغربية في العلمنة... وللحديث بقية.