عبدالله العليان -
ظهرت النظرية الفلسفية المادية، مع ظهور الاكتشافات العلمية في الغرب، خاصة مع عصر الأنوار وإقصاء الكنيسة التي كانت سدا منيعا أمام الاختراع والتطور العلمي والتكنولوجي في أوروبا، ويعتبر الدكتور عبد الوهاب المسيري، من الباحثين العرب البارزين، الذين اهتموا بالفلسفة المادية، ودراستها دراسة عميقة من كل جوانبها الفكرية، ومعايشة لهذه الفلسفة في عقر دارها في الغرب لسنوات طويلة، ففي كتابه «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان»، يقول في مقدمة هذا الكتاب: تشكل الفلسفة المادية البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة: الماركسية والبرجماتية والداروينية، كما أنها تشكّل الإطار المرجعي الكامن لرؤيتنا للتاريخ والتقدم وللعلاقات الدولية.
وقد ارتبطت الفلسفة المادية في عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدم والتسامح.. الخ. وقد حان الوقت، كما يقول، لفتح باب الاجتهاد بخصوص هذه الفلسفة نظرًا لأهميتها وهيمنتها على بعض النخب الثقافية والفكرية. ..وكلمة مادة، كما يرى المسيري، قد تبدو لأول وهلة وكأنها كلمة واضحة، ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. فالشيء المادي هو الشيء الذي كل صفاته مادية: حجمه، كثافته، كتلته، لونه، سرعته، صلابته، كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها، سرعة دورانه، درجة حرارته، مكان الجسم في الزمان والمكان... إلخ. فالصفات المادية هي التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء)، فالمادة ليس لها أي سمة من سمات العقل: الغاية، الوعي، القصد، الرغبة، الأغراض والأهداف، الاتجاه، الذكاء، الإرادة، المحاولة، الإدراك...الخ. والمادية كما يقول الدكتور عبدالوهاب، ترى أسبقية المادة على الإنسان وكل نشاطاته، وتمنح العقل مكانة تالية على المادة، ولذا فإن العقل ليس له فعالية سببية، ووجوده ليس ضروريًا لاستمرار حركة المادة في العالم. فنظرية المعرفة المادية (في مراحلها الأولى) تقر بإمكانية قيام المعرفة، فالعالم قابل لأن يُعرَّف، لأنه معطى لإحساسنا ووعينا، بل إن مادية العالم هي شرط لمعرفته. ولمعرفة هذا العالم لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/المادة. فهناك أولا حواسه الخمس التي ترصد المحسوسات، وهناك عقله الذي يرتب ويركب المحسوسات، ولكنه ليس منفصلا عن الوجود المادي الحسي، فالمعرفة هي انعكاس الواقع الخارجي في دماغنا عبر إحساساتنا، وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء. ويمكن للإنسان أن يكتسب المزيد من المعرفة من خلال التجريب ومراكمة المعلومات في ذاكرته. وفي بعض أشكال المادية لا توجد حدود للمعرفة، فكل ما هو موجود قابل لأن يُعرف. أما التساؤلات الميتافيزيقية فهي ليست موجودة أو ليست موضوعا للمعرفة.
ويُفرَّق البعض بين المادية المتطرفة والمادية المعتدلة، بحسب رؤية المسيري، وبين المادية السوقية والمادية الجدلية. فالمادية المتطرفة أو السوقية تذهب إلى أن العالم الحقيقي هو مجرد مادة تتغَّير في أحوالها وعلاقاتها المادية، وأن كل ما هو إنساني مجرد حركة للمادة، أما المادية المعتدلة فتحاول الوصول إلى رؤية أكثر تركيبا، ومع هذا فهي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير تفترض أسبقية المادة على كل الظواهر التي تُردُّ بعد كل هذا التركيب والتهويم إلى المبدأ المادي الواحد. والمادية الديالكتيكية والتاريخية لا تختلف في جوهرها عن ذلك. فالمادية الديالكتيكية تصدر عن الإيمان بمفهوم المادة التي تعني الواقع الموضوعي ((المعطى للإنسان في أحاسيسه، والذي تصوره أحاسيسنا وتعكسه، ولكن وجوده غير مرهون بها)). أما الوعي - كما يرى المسيري - فهو صفة المادة الرفيعة التنظيم، ويظهر بظهور المجتمع. والوعي يعكس الواقع الموضوعي ويكون صورة ذاتيه منه، وهو ما يعني أسبقية المادة على كل شيء. ويكمن لعب النظرية الديالكتيكية في بعض القوانين العامة بحركة الطبيعة والمجتمع والفكر وأهمها: تحول التغيرات الكيفية إلى كمية وبالعكس، ونفي النفي، ووحدة وصراع الأضداد..ولكن الفلسفة المادية، برغم إغرائها، كما يقول المسيري، تواجه عدة مشاكل: تدّعي الفلسفة المادية أنها ليست أيديولوجية وإنما علم طبيعي، وهذا يفترض أن الفلسفة المادية قد قامت بحصر كل المتغيرات المادية والموضوعية ورصدها في علاقاتها المتشعبة وأثبتت صحة مقولاتها. وهو أمر مستحيل علميا. كما أن الواجب العلمي يتطلب، بعد حصر كل المتغيرات والعناصر والأسباب وعلاقتها بعضها ببعض، إقرار غلبة عنصر ما على العناصر الأخرى وإعطاؤه أسبقية سببية، على أن تتم هذه العملية كل مرة، وهذا أمر مستحيل من الناحية العلمية. ولذا فإن ما يحدث، في واقع الأمر، هو أن الفلسفة المادية تواجه الواقع مسلحة بميتافيزيقا مادية غير واعية، فهي واعية أو تؤمن بوجود كليات تعميمات تستند إلى الإيمان بوجود كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء له هدف وغاية، وبوجود عقل إنساني قادر على رصد كل هذا. وهي أطروحات نبيلة، ولكنها ميتافيزيقية. فالثبات والتجاوز والهدف ليس من صفات المادة، ومقدرات العقل على التعميم والتجاوز من الصعب تفسيرها ماديا.
ظهر الفكر المادي كما يشير الدكتور المسيري، في أحضان الرؤية النيوتنية للكون، وعالم نيوتن عالم محكم مغلق يتسم بالحتمية الميكانيكية. وتفسير العالم، حسب نيوتن، يستند إلى ما يلي: آليات الوجود الفيزيائي للذرة (الجزئي) وقوانين الحركة. وانطلاقا من هذا، ظهرت الرؤية العلمية المادية التي نادت بأنه لا يمكن الحديث عن تأملات خارج معامل البحث ونتائج التجريب.
وقد ظلت هذه الرؤية مسيطرة تماما حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الضربات توجه إلى هذا النظام المغلق والسببية الصلبة. وقد أسقط العلم الحديث تدريجيا فكرة السببية الصلبة القديمة، ولم يعد يطمح إلى معرفة الكون معرفة كاملة كما كان يطمح علماء القرن التاسع عشر. فبعد مائة عام من التجارب العلمية كما يرى الدكتور المسيري، اكتشف الإنسان أنه كلما اكتشف وسيطر على شيء ما ظهرت له آلاف الأشياء الجديدة التي لا يعرفها، ولا يمكنه السيطرة عليها، من ذلك تجربتنا مع الذرة، هذا الشيء الذي يتحرك دون قانون والذي يصعب رصده، وكلما رصدناه اكتشفنا عناصر جديدة فيه تحيرنا، ثم حطمناه لنؤسس الفردوس الأرضي، وانتهى بنا الأمر إلى انه قد يدمرنا وكرتنا الأرضية تماما. وها نحن نمسك بكرة اللهب، أي العادم النووي والأسلحة النووية التي يمكنها تدمير العالم عشرات المرات، وكأننا بروميثيوس أبله سرق النار من الآلهة ولا يعرف ماذا يفعل بها بعد ذلك، وبدلا من الاستفادة من النار فإنها تحرق أصابعه.. ويرى الباحث سلمان بو نعمان في دراسته (تحولات المفكرين نحو الإيمان..نقد النموذج المعرفي المادي عند المسيري)، «من يقرأ للمسيري عن المادية سيجد عنده نزعة موغلة في الاتجاه الإنساني نظرا لسيطرة المادة على الواقع الإنساني وتفكيكها له، فقد أثار المسيري في دراساته للنموذج المعرفي المادي إشكالات مركبة، يمكن رصدها من خلال طرحه الأسئلة المنهجية الحارقة الآتية: ما هي علاقة الإنسان بالمادة؟ وهل الإنسان كائن مادي وحسب؟ وما هو مفهوم التفكيك الذي تدعو إليه الفلسفة المادية؟ وما هي المرجعية التي تشكل أفكار الإنسان؟ ويرجع إليها كل أساس فكري؟ وهل يمكن وصفها بالإطلاق؟ هل يمكن تعميم قوانين العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية؟ وهل يمكن تفسير الظواهر الإنسانية كميًا كما هو الحال في العلوم الطبيعية؟ ولماذا تنكر الفلسفة المادية النموذج الكلي؟ ما هي نظرية الحقوق الجديدة التي دعت إليها الفلسفة المادية؟ وما هو دور القيم في الإطار الفلسفي المادي؟ وهل استطاعت الفلسفة المادية إخراج الإنسان من أزماته؟» يمكن تصنيف هذه الدراسة، كما يقول سلمان بو نعمان، «بأنها محاولة لتعريف الفلسفة المادية وسر جاذبيتها وكشف مواطن قصورها، وتحليل النماذج الكامنة في هذا النموذج المادي من خلال دراسة أهم القضايا المنهجية والمطروحات المعرفية النقدية للمفكر عبدالوهاب المسيري، إذ في النهاية سيتبين إخفاق النموذج المعرفي المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، وعجزه عن إدراك الواقع في أبعاده المتعددة والمركبة والمعقدة». ..لكن ما هي النظرة العنصرية الغربية كما يراها المسيري وفق الفلسفة الغربية، والتي جعلت المركزية للإنسان الغربي في رؤيته، وأقصت الآخر المختلف.