ترجمة: محمد عبد النبي -
هشام مَطر مؤلّف روايتين لقيتا مديحًا مستحقًّا – أولاهما، في بلد الرجال، وصلت للقائمة القصيرة لجائزة دائرة النقاد للكُتب الوطنية [الولايات المتحدة] – ثم كتاب المذكّرات الجدير بالإعجاب والفائز بجائزة البوليتزر العودة. وقد شكَّلت مأساته العائلية جميع كتاباته؛ فقد خُطفَ أبوه، المعارِض الليبيُّ البارز، مِن منفاه في مصر حيث أقامَ في القاهرة، على أيدي عملاء مُعمِّر القذافي وأُخذَ إلى أحد سجون ليبيا ولم يظهر من هناك بعد ذلك أبدًا (بقدر ما يمكن للابن أن يجزم).
يُقدِّم لنا كتابه «شهرٌ في سيينِّا» مَطرًا وقد وجَّه نظرته وِجهةً أخرى، نحو فضاء مختلف كُليةً. بعد ثلاث سنوات أمضاها في الكتابة حول عودته الحاسمة والقاسية إلى ليبيا، يحمل نفسه ويذهب إلى [المدينة الإيطالية] ليتفرَّغ تمامًا لتأمُّل صور رُسمَت ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر. لَطالما أحبَّ أولئك الفنانين مِن سيينَّا، كما يخبرنا، منذ الأعوام التالية على اختفاء أبيه (عندما كان مطر الابن في التاسعة عشرة من عمره)، وسعى إليها ملتمسًا الإلهاء والعزاء في المتحف الوطني بلندن. طريقته الخاصة في النظر إلى أي لوحة أو جِدارِّية هي الوقوف أمامها لساعات، ليوم بكامله، لأيامٍ متوالية. حارسات متحف بيناكوتيكا في سيينَّا لاحظنه وأصررن على أن يقدِّمن له مقعدًا قابلًا للطي، والذي رفضه في البداية لكنه يجده وافرَ النَفعِ في نهاية الأمر.
يعرضُ الكتابُ الصورَ التي استغرق فيها هشام مطر ملونة ومصقولة. ما يثيرُ اهتمامه في هذا الفن هو المعرفة الإنسانية التي يحاول الفنَّان أن ينقلها. فهَا هو يتأمَّل جدارية (رمز الحكومة الصالحة) لأمبروجيو لورنزيتي في بالازو بَبْلِيكو؛ تعرضُ في جزءٍ منها رجلًا بشرته أدكن من الآخرين، ويخمِّن مطر، أنه ربما يعني هذا أنه ينتمي لعائلة سِيينِّية راقية ذات أصولٍ عربية – يمسكُ حبلًا يربطُ بين المصلحة العامة والوفاق والعدالة والحِكمة: «يبدو غارقًا في أفكاره الخاصة، واثقًا بالمكان الذي يجدُ فيه نفسه، لكنَّه آخذٌ ذلك في الاعتبار أيضًا. يبدو أنَّه يفكر في المسافات التي قطعها مسافرًا.»
يتسمُ الوصف بالدقّة والرشاقة، وهو ما ليس غريبًا على نثر مطر عمومًا. إنَّ لديه مسوغات كافية وأكثر لكي يتأمَّل في الحكومة الصالحة والحكومة الفاسدة. ما يراه في الأعمال الفنية يرتبط ارتباطًا طبيعيًا بهمومه ومشاغل عقله السابقة. يأخذنا أحد الفصول إلى إقامة سابقة له في روما ولقاء مع لوحة كارافاجيو: «داوود ورأس جالوت»: «لعلَّ قتلَ جالوت أكسبه عطفًا جديدًا. ليس لأنَّ داوود كارافاجيو نادم على النصر، بل بالأصحَّ على أنَّ عِظمَ فِعلته – حجم إنجازه وإخماد حياة إنسانٍ آخَر – قد غدا بالنسبة إليه، وربما أوَّل مرَّة في عمره الغضّ، جليًّا وقابلًا للتصوُّر. إنه يعرف أخيرًا ماذا يعني قتل إنسان.»
فقراتُ مثلَ هذه هي قلبُ هذا الكتاب. يقاومُ كتاب «شهرٌ في سيينا» كل المثيرات السردية التي قد نتوقعها. ثمَّة جزء لطيف حول مقابلة مطر بالمصادفة لرجل أردني يدعوه إلى بيته في سيينا، وجزء آخر حول الذهاب بعد تردد لحفل عيد الميلاد التسعين لصديقة قديمة في فيلَّا غير بعيدة للغاية من سيينا. لكنه يمر على ذلك مرور الكرام، كحواف وهوامش للفعل الرئيسي – أي تلك الصور واللوحات بوصفها تجربة.
هذا الكتاب ليس مرشدًا للسَفَر، رغم ما فيه من استحضار رائع لما يتركه الحيز المكاني من أثر في الباحة المركزية لسيينا التي تتخذ شكلَ مروحة، وكذلك ثمة سرد تاريخي موجز للغاية لوباء الموت الأسود وكيف غيَّر وجهَ أوروبا. كما أنه ليس كتابًا في النقد الفني الصريح أو حتَّى مذكّرات شخصية خالصة. سوف يسعد بقراءته أكثر مِن سواهم مُحبُّو أعمال هشام مطر الأخرى، مِمَّن يريدون مُدخلًا جديدًا إلى عقلٍ يمتص تفاصيل ذات تركيز مشحون بالكثير؛ تفاصيل تلتف لتحيط بفِكرةٍ أكبر. إنَّه كتاب يقتضي بعضَ الصبر. إنَّه دفاعٌ عن قوة الفن وقدرته على إجابة شوقنا لأن «يتم التَعرُّف علينا» فيما يدعو إلى إعادة اكتشاف «قدراتنا الخاصة في التذكُّر»؛ تذكُّر ماضٍ يتطلب أقصى قدر ممكن من الانتباه الحميم.
كاتبة المقال Joan Silber لها ثمانية أعمال أدبية [بين القصة والرواية]، أحدثها روايتها Improvement، نُشرَ المقال في نيويورك تايمز في 22 أكتوبر 2019، عندَ صدور كتاب هشام مطر بالإنجليزية. الكتاب صدر حديثًا باللغة العربية، عن دار الشروق، بترجمة زوينة آل تويّه، والأجزاء المقتبسة منه في هذا المقال بترجمتها.
هشام مَطر مؤلّف روايتين لقيتا مديحًا مستحقًّا – أولاهما، في بلد الرجال، وصلت للقائمة القصيرة لجائزة دائرة النقاد للكُتب الوطنية [الولايات المتحدة] – ثم كتاب المذكّرات الجدير بالإعجاب والفائز بجائزة البوليتزر العودة. وقد شكَّلت مأساته العائلية جميع كتاباته؛ فقد خُطفَ أبوه، المعارِض الليبيُّ البارز، مِن منفاه في مصر حيث أقامَ في القاهرة، على أيدي عملاء مُعمِّر القذافي وأُخذَ إلى أحد سجون ليبيا ولم يظهر من هناك بعد ذلك أبدًا (بقدر ما يمكن للابن أن يجزم).
يُقدِّم لنا كتابه «شهرٌ في سيينِّا» مَطرًا وقد وجَّه نظرته وِجهةً أخرى، نحو فضاء مختلف كُليةً. بعد ثلاث سنوات أمضاها في الكتابة حول عودته الحاسمة والقاسية إلى ليبيا، يحمل نفسه ويذهب إلى [المدينة الإيطالية] ليتفرَّغ تمامًا لتأمُّل صور رُسمَت ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر. لَطالما أحبَّ أولئك الفنانين مِن سيينَّا، كما يخبرنا، منذ الأعوام التالية على اختفاء أبيه (عندما كان مطر الابن في التاسعة عشرة من عمره)، وسعى إليها ملتمسًا الإلهاء والعزاء في المتحف الوطني بلندن. طريقته الخاصة في النظر إلى أي لوحة أو جِدارِّية هي الوقوف أمامها لساعات، ليوم بكامله، لأيامٍ متوالية. حارسات متحف بيناكوتيكا في سيينَّا لاحظنه وأصررن على أن يقدِّمن له مقعدًا قابلًا للطي، والذي رفضه في البداية لكنه يجده وافرَ النَفعِ في نهاية الأمر.
يعرضُ الكتابُ الصورَ التي استغرق فيها هشام مطر ملونة ومصقولة. ما يثيرُ اهتمامه في هذا الفن هو المعرفة الإنسانية التي يحاول الفنَّان أن ينقلها. فهَا هو يتأمَّل جدارية (رمز الحكومة الصالحة) لأمبروجيو لورنزيتي في بالازو بَبْلِيكو؛ تعرضُ في جزءٍ منها رجلًا بشرته أدكن من الآخرين، ويخمِّن مطر، أنه ربما يعني هذا أنه ينتمي لعائلة سِيينِّية راقية ذات أصولٍ عربية – يمسكُ حبلًا يربطُ بين المصلحة العامة والوفاق والعدالة والحِكمة: «يبدو غارقًا في أفكاره الخاصة، واثقًا بالمكان الذي يجدُ فيه نفسه، لكنَّه آخذٌ ذلك في الاعتبار أيضًا. يبدو أنَّه يفكر في المسافات التي قطعها مسافرًا.»
يتسمُ الوصف بالدقّة والرشاقة، وهو ما ليس غريبًا على نثر مطر عمومًا. إنَّ لديه مسوغات كافية وأكثر لكي يتأمَّل في الحكومة الصالحة والحكومة الفاسدة. ما يراه في الأعمال الفنية يرتبط ارتباطًا طبيعيًا بهمومه ومشاغل عقله السابقة. يأخذنا أحد الفصول إلى إقامة سابقة له في روما ولقاء مع لوحة كارافاجيو: «داوود ورأس جالوت»: «لعلَّ قتلَ جالوت أكسبه عطفًا جديدًا. ليس لأنَّ داوود كارافاجيو نادم على النصر، بل بالأصحَّ على أنَّ عِظمَ فِعلته – حجم إنجازه وإخماد حياة إنسانٍ آخَر – قد غدا بالنسبة إليه، وربما أوَّل مرَّة في عمره الغضّ، جليًّا وقابلًا للتصوُّر. إنه يعرف أخيرًا ماذا يعني قتل إنسان.»
فقراتُ مثلَ هذه هي قلبُ هذا الكتاب. يقاومُ كتاب «شهرٌ في سيينا» كل المثيرات السردية التي قد نتوقعها. ثمَّة جزء لطيف حول مقابلة مطر بالمصادفة لرجل أردني يدعوه إلى بيته في سيينا، وجزء آخر حول الذهاب بعد تردد لحفل عيد الميلاد التسعين لصديقة قديمة في فيلَّا غير بعيدة للغاية من سيينا. لكنه يمر على ذلك مرور الكرام، كحواف وهوامش للفعل الرئيسي – أي تلك الصور واللوحات بوصفها تجربة.
هذا الكتاب ليس مرشدًا للسَفَر، رغم ما فيه من استحضار رائع لما يتركه الحيز المكاني من أثر في الباحة المركزية لسيينا التي تتخذ شكلَ مروحة، وكذلك ثمة سرد تاريخي موجز للغاية لوباء الموت الأسود وكيف غيَّر وجهَ أوروبا. كما أنه ليس كتابًا في النقد الفني الصريح أو حتَّى مذكّرات شخصية خالصة. سوف يسعد بقراءته أكثر مِن سواهم مُحبُّو أعمال هشام مطر الأخرى، مِمَّن يريدون مُدخلًا جديدًا إلى عقلٍ يمتص تفاصيل ذات تركيز مشحون بالكثير؛ تفاصيل تلتف لتحيط بفِكرةٍ أكبر. إنَّه كتاب يقتضي بعضَ الصبر. إنَّه دفاعٌ عن قوة الفن وقدرته على إجابة شوقنا لأن «يتم التَعرُّف علينا» فيما يدعو إلى إعادة اكتشاف «قدراتنا الخاصة في التذكُّر»؛ تذكُّر ماضٍ يتطلب أقصى قدر ممكن من الانتباه الحميم.
كاتبة المقال Joan Silber لها ثمانية أعمال أدبية [بين القصة والرواية]، أحدثها روايتها Improvement، نُشرَ المقال في نيويورك تايمز في 22 أكتوبر 2019، عندَ صدور كتاب هشام مطر بالإنجليزية. الكتاب صدر حديثًا باللغة العربية، عن دار الشروق، بترجمة زوينة آل تويّه، والأجزاء المقتبسة منه في هذا المقال بترجمتها.