يتواصل طوفان الكتابة في غزة جنبًا إلى جنب مع طوفان الموت، ياه.. كم هي مدينة غريبة هذه الغزة! فكل يوم تقريبًا يموت في مدرسة مجاورة مليئة بالنازحين أو في حي من أحياء غزة العشرات، من النساء والأطفال والرجال، وكل يوم تقريبًا تولد قصيدة وتهبط على الأرض قصة قصيرة، ومؤخرا من شهرين تقريبًا، بدأ المئات من شابات وشبان غزة موهوبين كانوا أم غير موهوبين يكتبون يومياتهم ونصوصهم وتفاصيل واقعهم بلغة شعرية و قصصية لافتة، وصادقة جدا وعفوية، وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.

(ليس نحن من يكتب هذا الأدب)، قال لي مرة صديقي الشاعر الشاب أدهم العقاد: إنها غرابة هذه المدينة، نحن مجرد وسطاء بين هذه الغرابة وبين القراء، تمر الغرابة في أجسامنا، وأذهاننا، تجلس قليلا لترتاح ثم تخرج إلى القارئ طازجة محيرة مؤلمة، مجنونة، لكنها صافية مثل ضحكة نهر صغير، مضيفًا: (نتفاجأ نحن باندهاش القراء وشكرهم لنا، وحين نوضح لهم أن غزة هي التي تكتب غرابتها من خلال حساسيتنا، يبتسمون، وكأنهم يقولون، هذا تواضع المبدع الغزي).

على يد الموت يتعلم الغزيون كثيرا من الأشياء الجديدة، منها دروس كتابة القصص والأشعار، لا تتوقعوا أنهم يحتاجون إلى الخيال، فأهم شيء موجود في غزة ومجانا دون تكاليف أو فواتير، وقبل الماء والكهرباء هو الخيال، فما يحدث في غزة يحلق مثل نسر شاب على أعلى قمم الخيال الإنساني، الخيال فائض في غزة، يمشي في الشوارع عارضا معروضاته دون مقابل، فمثلا من كان يستطيع تخيل مشهد شاب يمشي في الأحياء المدمرة وبين الأنقاض، حاملا على ظهره كيسا فيه رأس أخيه الشهيد، وهو يبحث الآن بهدوء واتزان عن باقي أعضاء جسده؛ ليعيد لأخيه اكتماله، وحين ينجح في ذلك بعد أيام، تطلق الأم زغرودة فرح، ويأتي الجيران سعداء ليهنئوها على لم شمل أعضاء جسد الابن، وقد نزل الشهيد إلى قبره مكتملا مثل عريس. بلاد الخيال المعمم غزة حتى صار الخيال هناك يستغرب من نفسه، أمعقول ما يحدث؟ يبدو أني جننت، هكذا يهمس الخيال في أذن الخيال حين يهم بالغرق في النوم.

لم تتخيل الشابة الغزية أصيل سلامة التي لم تتجاوز العشرين أن يصدر لها كتاب من حيفا في عز المذبحة، هي أيضا لا تعرف متى ستلمس غلاف الكتاب، فالمسافة بين حيفا وغزة ليست بعيدة لكنها مدججة بالنار والموت، أصالة من الشابات اللواتي تفاجأن بالقلم يجري أمامهن، يخط القصص ويرسم المشاهد، ويلتقط المفارقات، وهي أيضا محظوظة فقد قرأ لها الكاتب القصصي الكبير محمود شقير نصوصها على الفيسبوك فأعجب بها أيما إعجاب، وتبنى موهبتها. أصيل من مدينة رفح أصلا، ونازحة إلى خان يونس، طلبنا منها أن تحدثنا عن سياق وظروف صدور هذا الكتاب هذه إجابتها: "بدأ الكتاب بمنشورات أدبية أكتبها على الفيسبوك، شعرت أنها أثارت إعجاب المتابعين وقد لاحظت زيادة عددهم، وتلقيت منهم رسائل إعجاب، وكان من ضمن هؤلاء المتابعين جدو الكاتب المقدسي محمود شقير، وشعرت من خلال تشجيعه الدائم أن ما أكتبه له قيمة لم أكن أعرفها وهكذا شجعني أيضا على نشر هذه القصص في كتاب، وتعهد بنشره، وهذا ما حصل، الكتاب (قمر 14) صدر في حيفا قبل أسابيع فقط، ولم أصدق نفسي أني صرت صاحبة كتاب يصدر في أغلى المدن، وفي ذروة مذبحة صهيونية ما زالت مستمرة".

في كتاب (قمر 14) هناك أكثر من 30 قصة قصيرة جدا، في كل قصة ثمة تكثيف موفق للحدث، وتقطير مؤثر للمشاعر، بعض هذه القصص القصيرة جاءت على شكل رسائل إلى (جدو محمود) نلاحظ في الكتاب اللغة الشفافة المتأملة، ورغم بساطتها إلا أنها نقلت ما يحدث بأسلوب جذاب وحيوي، وصادق، وطفولي.

ويخبرنا الكاتب الشهير محمود شقير عن قصة تشجيعه واكتشافه لموهبة أصيل: جاء الأمر صدفة، فتاة شابة اسمها أصيل سلامة، تكتب على رأس صفحتها في الفيسبوك: أهلا بكم في عام أصيل. شعرت بأن من تكتب جملة كهذه لا بد من أن لديها رؤية ما. تابعت صفحتها لبعض الوقت، لأحظت أنها تكتب تعليقات فيها سخريات ظريفة ونقد لبعض الظواهر. لاحظت كذلك حبها للأطفال، ثم عرفت من خلال صفحتها أن هؤلاء الذين تحبهم هم أبناء شقيقتها. وحين قرأت بعض يومياتها وجدت لديها موهبة تمكنها من دخول عالم الكتابة. شجعتها فتشجعت وكتبت كتابين عن الحرب، وكان لصديقي الناشر صالح عباسي فضل كبير حين تبنى إصدار كتابها الأول: قمر 14 وقصص أخرى، وكان للأستاذة رناد القبج فضل كبير حين تبنت إصدار كتابها الثاني: أصيل والأطفال الخمسة..